للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولا يخفى ما في هذه النظرية الأخيرة مما يدعو إلى اليأس والقنوط من إمكان الإنسان تكميل نفسه وتربية إرادته. لأن الشاب لا يمكنه أن يعيش أدهاراً لكي يتمم اصلاح نفسه وإنما يعتمد على عشرين عاماً تكون فيها أخلاقه من اللين والمرونة بحيث تقبل أن توضع في القالب الذي يراد وضعها فيه. فإذا بدأ الشاب يشتغل في إصلاح أخلاقه استعصى عليه الأمر وبعدت عليه الشقة في مقاومة طبائعهالتي ورئها عن أسلافه المتقدمين الذين تفصلهم عنه ألوف بل ألوف الألوف من السنين وقد خلفوا في نفسه أثناء تلك العصور والأعقاب آثاراً انطبعت في دماغه انطباعاً عضوياً. فلعمري ماذا هو فاعل إزاء هذا الجم الغفير من الأدباء والأجداد وهو كلما هم بفك نفسه من أسرهم تألبوا عليه بجمعهم. ماذا في استطاعة إرادته الضعيفة الضئيلة أن تفعله في صد تلك المؤثرات الكثيرة القوية وإذا ثارت في نفسه عوامل الغضب من هذا التحكم والقهر وعزم على الخروج من تلك الربقة وعصيان تلك العادات الثابتة الراسخة في قرارة نفسه وآلي إلا أن يغالبها ويغلبها استعصى عليه الأمر وباء بالخيبة والفشل. بيد أنه يعزيه عن هذه الحال تفكيره في مصير أولاده وأحفاده بعد خمسين ألف سنة مثلاً فيرى أنهم سيبلغون حينئذٍ أقصى درجات الرقي والكمال بتأثير البيئة الاجتماعية وما ينتقل إليهم بالوراثة من عصر إلى عصر ومن جيل إلى جيل فما زالوا يكملون فيها الناقص ويزيدون في أجزائها حتى بلغت بعد ذلك الزمن الطويل اقصى درجات الإتقان والكمال.

إن البحث في الأخلاق من هذه الوجهة خارج عن موضوع كتابنا هذا ولكنا نرى من الواجب علينا أن ننظر في هذه المسألة نظرة عامة وندحض ما نراه وجيهاً من حجج أصحاب هذه النظريات.

هذه النظريات الثلاث التي بسطناها للقارئ تدل دلالة بالغة على ما للخمول العقلي من التأثير البليغ على هذه العقول الكبيرة. ذلك الخمول اللاصق بالجبلة البشرية لصوق الزلة متى زلها آدم أبو البشر. ذلك الخمول الذي جعل هذه العقول الكبيرة تتأثر بألفاظ اللغة وهي لا تشعر. يهتمون بالألفاظ ويهملون المعاني المستترة وراءها. تكون اللفظة واحدة فيخيل إليهم أن ملولها واحد. وهذا هو السر في وجود تلك النظرية القائلة بأن الخلق لا يتغير لأن أصحاب هذا الرأي ظنوا أن لفظة خلق تدل على شيء واحد ولم يفطنوا إلى أن الخلق إنما