للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

قلنا أن الألم وهم سطحي، والخوف إنما هو من الألم فليس الخوف إلا وهم سطحي مثله. وإنه ليخيل لي أن الشهيد الذي كان يحترق بالنار ما كان يحس من لذعها ما يحسه واقف ينظر إليه عن بعد. فإن عذاب ذلك الشهيد ليس إلا هواجس تقوم بأذهاننا وإن أول ما يمس بشرته هو آخر ما يحسه. أما الآلام الأخيرة فأنها تضيع في غيبوبة الذهول والإغماء.

(٣) حافظ الشيرازي

كان حافظ أمير شعراء فارس. ولقد خص بمواهب خارقة، فكانت له قريحة كقرائح بندار وأنا كريون وهوراس وبيرنس وزاد عليهم نظرته الصوفية إلى أعماق الطبيعة وأحشاء الكون: نظرة تتغلغل إلى أبعد مما يصل إليه نظر واحد من هؤلاء الشعراء.

. . . . . ولقد كان يتغنى بالصهباء، ويبسم للورود الحمراء، ويتغزل بالفتيان، وينسب بالعذارى الحسان، ويطرب لأهازيج العصافير، ويبتهج بالصباح المشرق المنير، ويهتز لشجى الألحان، وتوقيع القيان، ولكنه كان يخفى وراء ذلك ولها متأصلاً بكل صورة من صور الجمال وتهافتاً على الطرب والأنس يمزجه بازدراء قداسه المرائين وحكمة قصار الأنظار من الغافلين.

ذلك ما كان يدور عليه أكثر شعره. فإذا هممت باتهامه في أخلاقه وشيمه ألقى إليك بيتاً من الشعر يلوح لك منه كيف أن الشهوة كانت أصغر مشتهيات الرجل، وقذف العالم بأكبر ما سمع من احتقار مظاهره وحظوظه. ومن تلك الأبيات ما يهبط إلى الناس من أعلا ذروة الفكر الإنساني كقوله:

آتنى بالكأس أحيي الر ... وح من أعذب راح

ما يرى في عالم الأر ... واح مخمور وصاح

أو ملوك وعبيد ... بين أبناء القداح

. . . . . قيل أنه أبصر غلاماً مليحاً في أسواق شيراز فقال فيه:

وهبتك قلبي يا ابن شيراز مدنفا ... وقلب الفتى أغلى وأكبر ما أهدى

ولو كنت ذا ملك وهبت لخاله ... بخارى متاعاً سائغاً وسمرقنداً

فتناشد الناس البيتين واتصل خبرهما بتيمور في قصره فأمر به فأحضر. فلما مثل بين يديه، قال له: أيها الرجل كيف اجترأت أن تنزل هكذا من شأن مدينتي اللتين ما رفعتهما