أخرى إن نبيذ خالتي سينوب الآن عنها. لقد مشيت مسافة طويلة فدعيني أجترئ على أن أتناول ما أريد في هذا البيت دون دعوة، ألا تتناولين شيئاً؟
فاعتذرت مرسى، وهي في عجب من خفة روحه ودعابته. فاشتف القدح في مظهر الرجل الخبير بالنبيذ البصير بالردئ منه والجيد. ثم وضع عن فمه القدح وهو يقول برزالة مضحكة إن نبيذ خالتي لخليق بها. كلاهما نتاج الطبيعة، وهنا اقتعد مجلساً إلى المائدة. وجعل ينظر نظرة الناقد الفاحص إلى الصحان المتنوعة الموضوعة فوقها واستطرد في حديثه يقول وما هذا؟ فطيرة فرنسية!. . . . يلوح لي أنه من الظلم الأكبر أن نذوق نبيذ فرنسا ونمر بفطائرها معرضين وإذ ذاك أمسك بسكين وشوكة وراح يأكل الفطيرة بالخبرة التي كان يذوق بها النبيذ ثم لم يلبث أن صاح في حمية وطرب وابتهاج إن هذه الفطائر لجديرة بتلك الأمة العظيمة. . . لتحي فرنسا!!. . .
وظلت مرسى واقفة تسمع وترى متعجبة منذهلة إذ أبصرت أمامها رجلاً ليس بينه وبين الرجل الذي تخيله فؤادها شبه أو تماثل ولو نزع عنه رباط رقبته الأبيض لما استطاع أحد أن يعرف أن الرجل من أهل الكنيسة.
ومضى يعمل السكين والشوكة في فطيرة أخرى. وهو منطلق في حديثة يكلمها بهدوء وألفة كأنما كان يعرفها منذ عدة أعوام.
قال مستطرداً في حديثه. لقد جئت إلى هنا عن طريق الحدائق. وقد كنت منذ زمن أقيم في إقليم قفر دميم قروي هادئ، وأنت لا تستطيعين أن تتصوري البهجة التي ثارت في فؤادي عند رؤيتي مناظر الحديقة ونضارته، وإذ شهدت الغواني في أثواب الشتاء وأبراد الدفء البهيج، والمرضعات النشيطات المتخففات، والأطفال الحسان، والولدان المحببين، ورأيت الجمع المزدحم يتزلق فوق أحذية الثلج. ولشد ما انتشت روحي بعد الحياة المظلمة التي عانيتها في الريف، حتى نسيت نفسي فانطلقت أغمغم بترنيمة خافتة، وأنا أخترق منافس الحدائق. فمن الذي تظنيني التقيت به وأنا في أحر غنائي؟.
فاعتذرت له مرسى لأنها لا تستطيع ظناً ولا حدساً، ولكنه مضى في حديثه أخف روحاً وأكثر دعابةً من قبل. دون أن يتظاهر بأنه قد لحظ التأثير الذي أحدثه في ذهن الفتاة.
قال من الذي ترينني التقيت به، وأنا أترنم بأحر النغم. .! التقيت بأسقفي. ولو وكنت في