للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تلك اللحظة أغني أغنية كنيسية لاستطاع سيدي الأسقف أن يتجاوز عن جرئتي وعاميتي، صارفاً النظر عن غنائي. ولكن لسوء الحظ كانت الأغنية التي أغمغم بها في موسيقى فردى الشاعر الطلياني: ولعله سمعها من المعازف المتنقلة في الشوارع. وقد تبين ولا ريب الأغنية، وعرف اللحن، لأنني عندما رفعت القبعة بالتحية. ولى وجهه عني، ونظر إلى الناحية الأخرى. غريب والله أن نكون في عالم اكتظ بالشرور والآثام وامتلأ بالأحزان والآلام، ثم نهتم بتافهة كهذه. ونحزن ونغضب لرؤية رجل من أهل الكنيسة يترنم بالأغنيات.

وإذ ذاك أزاح عنه صفحة الطعام واسترسل يقول بكل بساطة إني لا أستطيع أن أفهم لماذا نريد دائماً نحن معاشر الكنيسيين أن نعد أنفسنا طائفة منفصلة، وجمعاً منعزلاً عن بقية الناس، نمنع من أن نفعل كما يفعلون. إن أئمة الدين الأولين لم يسنوا لنا هذه السنة، ولم يدعو لنا هذا المثال. لأنهم كانوا أرزن منا عقولاً، وفطن ألباباً، وخيراً منا نفوساً، بل إني لأستطيع أن نقول أن أكبر ما يعيقنا عن أن نفعل الخير ونجيء بالمكرمات اتخاذنا مظهر الهيبة والرئاسة والعظمة والزهو. وأنا نفسي لا أطالب بأن أكون أكثر احتراماً وتوقيراً من أي رجل آخر يفعل الخير جهد طاقته. وإذ ذاك نظر إلى مرسى نظرة ضاحكة وهي تنظر إليه مندهشة محملقة، ثم عادت إليه نزعة المجون فاستطرد أن يقول هل أنت من الديمقراطيين المتطرفين. إنني منهم!!.

وحاولت مرسى أن تفهم كلماته ولكنها لم تستطع له فهما. إذن أيكون هذا الرجل الواعظ الذي فتن فؤادها في مصلى الملجأ، وسحرها، وطهر عواطفها بكلماته، أيكون هذا المتكلم الذي أبكى عيون النساء، وأرسل عبراتهم، تلك النسوة اللاتي أغلقت الأيام أفئدتهن وأقست الجرائم شعورهن أجل. أجل. هاتان العينان اللتان تنظران إليها الآن في نزق ومجون هما العينان الجميلتان اللتان نفذتا من قبل إلى أعماق فؤادها. هذا هو الصوت الذي يضج الآن بالدعابات والأمازيح هو نفسه ذلك الصوت العميق الأجش الحنون الذي هز أعشار قلبها هزاً، إنه فوق ذؤابة المنبر ملاك من ملائكة الرحمة. فإذا هو في الشارع طفل أطلق سراحه من محابس المدرسة.

قال برفق، وقد لحظ اضطرابها لا تنزعجي مني ولا تخافي. إن الرأي العام قد نعتني