وكانت الليلة قرة ذات رياح وأمطار فاستمنح أحد المارة بضع بنسات وابتاع رغيفاً (لأن من أصالة الرأي أن يطعم الفتاة حتى لا تهمد من الجوع) ثم أغذ السير إلى البيت. فألفى بابه أو ما بقي منه مفتوحاً إلى آخره. ليتسنى لكل ساكن أن يلج البيت من غير أن يكلفه ذلك عناء. وصعد مدرجاً قديماً متهدماً وهو يوشك من فرط الظلمة أن يمشي على راحتيه ورجليه وينال الأرض بوجهه. فلما صارت غرفته منه قاب قوسين أو أدنى فتح الباب وظهرت فيه فتاة ذات وجه ظمآن وجثمان تخونه السقم ودكه المرض وأذوت نضرته الفاقة. وفي إحدى يديها شمعة أظلتها بالأخرى. ونظرت بمجامع عينها إلى القادم ثم قالت أهذا أنت يا أبي؟ فتعبس وقال ومن غيري كنت تتوقعين، وما بالك ترعشين، إني لم أنقع إلى الساعة غلتي ولقد طال تلوحى ولا سبيل إلى الري إلا بالمال ولا مال إلا بالعمل فما خطب الفتاة. فقالت الفتاة إني عليلة وصبة وتحدرت عبرتها وتساتلت على وجنتها عقود دمعها.
فزقر الرجل زفرة من لا يجد مناصاً من الاعتراف بأمر لا يندى على كبده يود لو استطاع أن يتلهى عنه ويسهو. وقال يجب أن تصحى وتثوبي إذ لا بد لي من المال ولذلك يجب أن تستوصفي طبيب الكنيسة ليحسم عنك داءك قبل أن يستغز بك ويعطيك بعض الاشفية لعنهم الله فلا بد من دفع ثمنها، مالك تقفين في وجهي. دعيني أدخل
فأوصدت الباب وراءها وهمست إليه أبي لقد عاد وليام
فقال وقد نالته فزعة شديدة من؟
قالت صه - ويليام. أخي ويليام
فقال الرجل وهو يحاول أن يسكن جأشه وماذا يبغي مني أخوك وليام. ألمال، أم اللحم، أم الشراب لقد ضل فليس هنا قراه. اعطني الشمعة - اعطنيها ياغبية - فلا بأس على أخيك ولا مكروه واختطف الشمعة من يدها ودخل الغرفة. فانس فيها شاباً في الثانية والعشرين من عمره رث الكسوة باذ الهيئة جالساً على صندوق قديم ورأسه مسندة إلى يده وعيناه ترنوان إلى نار قد خبا سعارها وفتر ضرامها. فلما أحس أباه حملق إليه وقال لأخته أو صدى الباب يا ماري أو صدى الباب أراك يا أبي تنظر إلى كانك لا تعرفني إن عهدك بطردي بعيد لا ريب وأنت معذور إذا نسيتني.