للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ولبث على هذه الحال أيا ماغير أنه لم يجد للفتاة أثراً ولم يسمع عنها خبراً فأضمر اليأس منها ولم يدهشه ما فعلت فقد كان ينتظر منها أن تهجره لتسعى على نفسها وها هي قد تركته ليموت وحده جوعاً فنزت في رأسه سورة الغضب وعض على ناجذيه ولعنها.

وجعل يستجدي المارة. ويستمطر غيث معروفهم ويلفق لهم أحاديث هو ناسج بردها وكلما منّ عليه أحد بدرهم أضاعه فيما يعرف القارئ. ومضى على ذلك حول كامل لم يظله فيه إلا السجون وكان إذا خرج منها ينام على الأعتاب وفي مصانع الآجر وحيثما وجد معاذا من البرد ومعصما من الامطار ولكنه ما زال سكيراً على الرغم من فقره ومرضه وحاجته.

وفي ليلة قارسة صردة تساقط على بعض الأعتاب خائراً فاتر القوى وقد نهكته الخمر وهده الإدمان فأصبح بادي الفصب غائر العينين كليل البصر لا تتبعه رجلاه قد حطمته الأيام وأرعشه البؤس والفسوق.

فكرت أمام عينه صفحات حياته وخلص إلى نور الذكرى ما كان قد غاب في ظلمات النسيان. فتمثل له بيته القديم - إيه ما كان أهناه - ونفض غبار الموت عمن عمروه فالتفوا حوله واحتشدوا أمامه. وخيل له أن الأرض قد انشقت عن أكبر بنيه فبرزوا له ملفوفين في الأكفان. حتى لكاد من فرط الوضوح والجلاء يلمسهم بيده ويفضي إليهم بحواسه ورشقته نظرات نسى وقعها من قديم ووردت على سمعه أصوات أسكتها الموت ولكن ذلك لم يدم إلا برهة ثم استسرت الوجوه وخفيت المنازل وهمدت الأصوات وصرح الحق عن محضه فانحلت عقود الغمام وتناثرت لآلئ المزن.

فادمعها سح وسكب وديمة ... ورش وتوكاف وتنهملان

وعض الجوع بالشر أسيف واصطكت الأسنان من البرد فنهض وجر رجليه بضعة أمتار وهما يئنان من التعب ويتأففان من السعي وكان الشارع ساكناً والليل بائماً إلا عدداً قليلاً كانوا يمرون به مهطعين حال بينهم وبين ندائه هول الليل وتهطال السماء وهبت ريح جربياء قف منه جلده وتقبض فانتبذ مدخل بيت وحاول النوم

ولكن عينه لم تكتحل بغمض كأن الرقاد هجرها وجفاها وكأنما اعتراه مس من خبال وإن لم يغب عنه إدراكه وعقله فرنت في أذنه قرقرة الشراب إذ يضحك الواحد بملء فيه حتى يمسك صدره - وصور له أن ثغر الكأس على ثغره وأن المائدة غاصة بألون الطعام الشهية