- لقد كان كل ذلك بمرأى منه ومعان وليس عليه إلا أن يمد يده ليتناول منه ما شاء - غير أنه لم يرتب في أن ذلك خيال كاذب ووهم باطل - وإن كان باطلاً أشبه بحق - وإنه وحده في شارع مهجور ينظر إلى الطل وهو يتساقط على الحصباء وأنه قد أشفى على الموت وأشرف على التلف وأنه ليس له في الحياة من يكترث له أو يعبأ به.
ثم وقف بغتة وهو يرتعد من الذعر فقد سمع صوته في سكوت الليل من غير ما سبب وتبع ذلك أنه وأخرى - لقد مسه الجنون وخرجت من فمه كلمات مقتضبة وحاولت يداه أن تمزق لحمه ثم ثار ثائر جنونه فجعل يصرخ مستنجداً حتى خانه الصوت.
فرفع رأسه وسرح طرفه في الشارع وذكر أن بعض من نفاهم عن الناس الهم والتشريد مثله وقضى عليهم أن يطوفوا في الشوارع ليل نهار قد سلبت عقلهم الوحدة فجنو. وذكر أنه سمع منذ عهد بعيد أن الناس وجدوا بائساً من هؤلاء في ناحية منزوية يشحذ سكيناً صدية ويرهف حدها ليغمدها في قلبه مؤثرا الموت على حياة التشريد. فدبت في مفاصله الحياة وقام في رأسه خطة وانجرد يعدو لا يلوى على شيء حتى بلغ عبر النهر فمشى هوناً ونزل على رود حتى أتى الماء فقبع في ركن وحبس نفسه حتى يمر الحارس فلا والله ماهش سجين للحرية والحياة واهتز لهما اهتزاز هذا البائس للموت. ومر عليه الحارس ورآه المسكين عين عنه وظل في مكمنه حتى غاب الحارس في ظلام الليل ثم خرج من ظلمة الاستتار ووقف تحت حنية عند مرسى النهر.
فجرى الماء عند قدميه. وكانت السحب قد رقأ دمعها وسكنت الرياح وسادت السكينة في البر والبحر وجرى الماء بيطئاً ريثا وخلصت إلى سطحه أشباح غريبة وأشخاص جعلت تومئ إليه وتستدنيه. ورمته من الماء عيون دعجاء الحدق كأنما تسخر من تردده وتهزأ واستحثته من ورائه أصوات جوفاء. فتراجع بضع خطوات ثم اندفع يجري ووثب وثبة الشيطان واحتوى عليه الماء. ولم تمض إلا ثوان خمس حتى طفا على وجهه - ولكن ما أعظم الفرق. وما أكبر ما طرأ عليه من التغير في أفكاره وشعوره الحياة - الحياة - في أي صورة - الفقر أو البؤس أو الجوع - أي صورة إلا الموت فكافح الماء واعتلج الموج فوق رأسه فصرخ مذعوراً ودويت أذنه بلعنة ابنه - ودنا من الشاطئ حتى صار بينهما نحو قدم وحتى كاد يلمس سلمه. ولكن التيار ساقه تحت حنايا الجسر احتمله فهوى إلى