للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

دين آخر من الأديان، ثم لا تزال وحدانيته متجردة عن المادة وجلالة وقدرته ومغفرته ورحمته أنشودة فياضة ثابتة لا نهاية لها ولا ختام ولا حد، تتدفق في آيات وقطع ورسالات من أبلغ آيات البيان وأشدها إثارة للأرواح وهزة للنفوس. ثم لا تزال الروحانية في الحياة وفيضها ونورها مبادئ لا ينتهي الإنسان منها. ولكنك لا تجد في دين الإسلام كله من أوله إلى آخره أثراً من آثار الاستبداد الفكري والسفسطة وتشعب النظريات السفسطائية والمبادئ العقلية، واللجاج والمحاجة والثرثرة، بل لا يزال هذ الدين يمس الروح، وينادي الضمير العميق في الإنسان، ويناجي الفؤاد والوجدان، ويمشي مع الصوت الخارج من حبة القلب، الصادر من سويداء الروح، ولا يسمع إلا لمنطق القلوب معقل الغريزة والفطرة.

ولنأخذ الآن في شرح موجزة ونظرة غير مستطيلة إلى الأفكار الدينية التي كان يدين بها شعوب الدنيا لما بدأ نبي الإسلام يدعو دعوته، ويبث رسالته، فقد كانت فكرة الله عند العربي الجاهلي تختلف تبعاً لآداب الفرد أو القبيلة فمنهم من كانت تبلغ فكرة الله عنده إلى حد الإلوهية وطبيعة الإلهع، وآخرون كان يسفون من هذه الناحية فتتردى عقيدتهم في الإلوهية إلى حد عبادة الأوثان، وتنزيل الإلوهية واعتقادها في قطعة من الصخر، أو العصي أو الأخشاب، وكان قوم منهم يعتقدون في حياة أخرى، على حين كان فريق آخرون لا يعلمون عن ذلك شيئاً البتة، وكان أعراب الجاهلية يدينون ويسلمون أنفسهم إلى سلطان الساحرات، أسوة بالفينيقيين، وكان سكنة الصحراء والضاربون في البيداء والعرب العرباء والعادون في المهمة القفر، ولا ريب خلاء قلوبهم من عبادة الله، ولكنهم مع ذلك لم يكونوا عمياً عن أن يروا ويتخيلوا يداً خفية وراء هذه الرياح الهوج التي تعصف في الصحراء فتغمر الأرض رمالاً تزجيها وترسلها هوجاء، وإن تشاء تردها شمالاً، أو إن تشاء تعيدها نسيماً سجسجاً، وهي التي ترسم تلك الألوان الجميلة الخداعة التي تنهض لأعين القافلة، تستبيهم لموتهم، وتجتذبهم على حر الأوام ولهب الظمأ إلى حتوفهم، وكذلك تعلم أنه كان يجري في العالم الذي يحيط بالعرب فكرة غير محسوسة، ورأي غير ملموس، ولا محقق أو محدود، في أن فوق هذه الأكوان قوة عالية، هي رب الأرباب.

ولعل اليهود وهم أولئك المحافظون على فكرة الوحدانية كما لقبهم بذلك التاريخ كانوا الذين أعانوا على تكوين هذه المشاعر، على انهم أنفسهم أظهروا الإعراض والعلل التي تنجم عن