فعادت تقول: لقد كنت أظن الآن وقد ذهب الطفلان أنني أصبحت أستوحش غيابك.
فأجاب مرتبكاً: إذن سأجتهد. . إلى اللقاء. . .
وفي ذلك المساء دهش كثيرون من المارة، واستغرب جمع عظيم من السابلة إذ رأوا رجلاً كهلاً في أثواب نظيفة يجري على آخر نفس في الشارع.
وكان هذا الكهل الذي يعدو كأنه قد عاد طفلاً. وآض شاباً واستحال عريساً جديداً، هو نوربرت. فقد نهضت الذكريات البعيدة في صفحة ذهنه وخيل إليه أن العشرين عاماً التي مضت على زواجه لم تكن إلا حلماً في الكرى وإيماضة برق لامع. وكانت فيولا اعتادت في أوائل العهد بالزواج أن تجلس إلى النافذة فتطل منها مرتقبة مطلع زوجها المحبوب من ناصية الشارع وتناديه باسمه الجميل الذي خلعته عليه وهو الغزال. حتى لقد كان الجيران يسخرون منها ويعتبون عليها فيه وينتقدونها من أجله.
والآن جعل نوربرت يجري في الطريق وهو يسائل نفسه هل سيراها الآن بعد عشرين عاماً من جلستها تلك، واقفة بالنافذة تنتظر عودته وإذ ذاك أجابه صوت نفسه بأنها لا ريب لن تكون كذلك، فإن هذه الفكرة مضحكة مجنونة. على أنه ما كاد يلم بناصية الشارع الذي يحوي منزله حتى تطلع إلى النافذة فلم يجد أحداً. وإذ ذاك هدأ من أنفاسه ومشى مطرق الرأس إلى الباب فتحسس جيوبه ليرى مفتاح الباب. ولكنه لم يلبث أن رأى الباب قد انفتح وإذا بفيولا واقفة أمامه، ووجهها تعلوه صفرة الموت. وشفتاها ترتعشان وقالت متلعثمة وقد هجمت الدموع إلى عينيها ريتشارد وإذ ذاك عرف المعنى الذي أرادت أن تفصح عنه، فإن المصائب والأنباء السوء أصبحت تدرك اليوم بالإشارة. لا تحتاج إلى كثرة شروح وإفاضة حديث، وفي هذه المدنية العجيبة التي جاء بها القرن العشرون.
فقرأ التلغراف وهو جاف العين والحلق، ولم يستطع أحد منهما الكلام وجاءت الخادمة بعد برهة تعلنهما بأن العشاء قد تهيأ، فأخذ كل مجلسه من الخوان، ومرت ألوان الطعام أمامهما، فلم تمد إليه يد، ولم تمس صحفة من الصحاف، وعادا إلى حجرة الحديث فجلس هو في مقعد مطرق الرأس وجاءت هي وراءه، فوقفت، وحاولت فيولا الكلام فاحتبس المنطق في صوتها، ولكنها لم تلبث أن استجمعت قواها فقالت بعد جهد. . . لقد كنت خائفة عليه يوم