للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

للنقد ومقتهم للناقدين.

إنهم يحبون الحق وشفقون به ولكنهم يعتقدون بحكم العادة والوراثة أن الحق ما هم فيه وإن غيره هو الباطل فإذا قام بينهم من يقبح عادة من عاداتهم أو يسوئ رذيلة من رزائلهم نقموا منه وزروا عليه ونهضوا لتسفيه رأيه وتهجين خطته بمقدار ما أوتوا من قوة الدفاع عما يعتقدون أنه الحق وتلك طبيعة الإنسان في كل زمان ومكن فليس للناقد إذا كان مخلصاً إلا سبيل واحدة وهي صدق العزيمة واحتمال الاذاة في نفسه وعقيدته حتى يصل إلى ما يريد.

إنهم يكرهون أن يقبل أحد منهم الدرهم والدينار من غير أن ينقد ويتبين مكانه من الجودة والرداءة ولكنهم لا يكرهون أن تتقبل نفوسهم حقائق العلم وأنواع المعقولات من غير بحث ولا تمحيص ومن غير تفريق بين غثها وسمينها وليتهم إذ كرهوا أن يجهدوا أنفسهم بالنقد تركوا غيرهم وما يريد من تمحيص الحقائق لهم وتحقيقها قبل أن تصل إلى عقولهم ولكنهم لا يستطيعون لأنهم خاضعون لذلك السلطان القوي القاهر سلطان الاحتفاظ بالعادة والحرص على القديم.

إنهم يجهلون مقدار المشابهة الشديدة بين النقد في المعنويات وعمل الطبيعة في الحسيات فلا يعلمون أن عمل الطبيعة في تحليل المادة وتركيبها وتحويلها من صورة إلى صورة أخرى ليس إلا نوعاً من النقد الحقيقي بل هو أسح أنواع الانتقاد لأن أقرب نتائجه ابقاء النافع المفيد وإفناء الفاسد المضر فالرجل لا يموت إلا إذا حقت عليه كلمة الطبيعة بعد النقد الصحيح وعرفت أنه لم يبق صالحاً للحياة وإن وجوده أصبح من أنواع العبث الذي يجب أن تبرأ منه الطبيعة ويتنزه عنه الله عز وجل وليس النقد في الأشياء العقلية والمعنوية إلا نوعاً من هذا النقد الفطري فنحن إذا عمدنا إلى قضية في الفلسفة فبينا بعدها ما نعتقد أنه الحق وأوضحنا نصيبها من مخالفة حكم العقل والحيرة عن طريق الصواب لم يكن عملنا هذا إلا إعانة للطبيعة على ماهي بإزائه من محو الضار وإبقاء النافع.

ولو أنهم علموا بذلك وأنعموا النظر فيه ما استطاعوا إلا أن يكونوا للنقد أنصار ولرجائه مؤيدين نعم إن النقد في المعنويات ليس إلا إعانة للطبيعة على عمله فكلنا نعترف أن الباطل في نفسه مفسد للعقول مقوض للعمران وإن أقدس واجب على الإنسان هو بإزهاق الباطل وإظهار الحق ولئن كان هذا ظاهراً في قواعد العلم وقضايا الفلسفة فهو في فنون