للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

المكانة رهين بذلك موقوف عليه.

أثر النقد في الامم

بعد ما بيناه من حقيقة النقد ومكانه من إصلاح العقل وتنظيم حركته لسنا في حاجة شديدة إلى أن نكثر القول في بيان أثره في الأمم مما لا شك فيه أن رقي العقل وانتظام حركته هما أرقى مطلب بطلبه المصلح في أي أمة من الأمم أي ليس للأمم مطلب اسمي ولا أجل من هذا المطلب وإذا كان النقد كما بينا ليس مقصوراً على أنواع القول وفنون الكلام بل هو عام يشمل أنواع الأعمال والصناعات والعلوم كان رقي الأمة فيه من أوضح الأدلة على رقيها في هذه الأشياء فإن الصانع لا يبلغ من النقد في صناعته منزلة صالحة إلا إذا مهر فيها وأحاط بدقائقها واسرارها وكذلك الأمر في النقد الأدبي والعلمي وغيرهما من أنواع النقد ومن هنا يتبين أن من الأسباب الحقيقة لسقوط أمر النقد في مصر ضعفها المطلق في أنواع العلوم والصناعات وفي اليوم الذي ترقى مصر فيه رقياً ظاهراً فتدرك من الإجادة في كل شيء طرفاً غير قليل لا يكون لها بد من إجلال النقد وإكباره ومن تصديق الظن به وتحسين الرأي فيه.

ذلك شأن الأمم لا ترقى في شيء حتى تجعل النقد مقياس جيده ورديئه ومرآة خطئه وصوابه ومن اليسير علينا أن نتبين ذلك واضحاً جلياً في تاريخ العرب في جاهليتهم وإسلامهم وفي بداوتهم وحضارتهم فإنهم لما لم يكن لهم في العصر الجاهلي نصيب موفور من الرقي في غير فنون القول كان نصيبهم من النقد موقوفاً عليه ومحصوراً فيه فبلغ النقد الأدبي عندهم في هذا العصر أرقى ما يمكن أن يبلغه في أمة بدوية تمتاز بالفصاحة وحسن الإعراب وبزلاقة الألسنة وذرابتها وصدق البصائر وإصابتها ولك من أنباء عكاظ وأخبارها ومن أحاديثها وآثارها أصدق دليل على ذلك بل أن هناك دليلاً ليس أنصع ولا أسطع منه على مكانة أولئك الناس من النقد الأدبي فإن الله عز وجل لم يجعل القرآن الكريم معجزة نبيه وبرهانه إلا لأن أولئك الناس الذين بعث فيهم النبي كانوا من رسوخ القدم في النقد اللفظي والمعنوي في المكانة التي لا يساميهم إليها مسام ولا ينازعهم فيه شريك. .

ولو أن أولئك الناس لم يكونوا ذوي امتياز في النقد وتفوق كثير ما كان الكتاب على