للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

العصور القديمة وما تبعها من القرون الوسطى - أعني بين عهد بيريكليز اليوناني وبين القرن الرابع عشر بعد الميلاد. أجل والله إن أحدنا لا يكاد يصدق أن أهل هذين العصرين هم من جنس وأحد وطنية واحدة. فقد امتاز أقدم العصرين عصر قدماء اليونان بأرقى مدينة وأسماها وأرفعها وأسناها. واشدها تهذيباً وأحسنها ترتيباً مع النظامات المتقنة والقوانين المحكمة وجميع الفنون الجميلة والصناعات البديعة فضلاً عن الشعر والقصص والفلسفة في أكمل مظاهرها وأجمل مجاليها - تلك آيات روائع وملح بدائع قد مرت عليها آلاف السنين. وهي في بابها فذة نادرة فريدة مقطوعة الأشياء والنظائر لا يلحقها مقارب ولا مدان. ولا يشق غبارها في مضمار الرهان. فهي نتائج قرائح وأذهان لم تتوفر لغير أربابها من بني الإنسان. فكأنها صنعة لأنس أو أنس لجان. أولئك قوم أفاضوا على صفحة الحياة رونق الغضارة. وأسالوا على جبينها عزة البهجة والنضارة. ووثقوا عراها بأجمل أواصر الألفة والوداد: وشادوا صرحها على أوطد دعائم التضامن ولاتحاد (اقرأ كتاب مأدبة زينزفون). هذا عهد يونان القديمة. فانظر الآن إلى أوروبا في القرون الوسطى وخبرني ماذا تجد؟. . الكنيسة تأسر الأذهان. وتفل مضارب اللسان، وتحطم الأقلام وتطمس الأفهام وتحرق الأجسام. وقد أصبح الناس سوقة وملوكاً وشريفاً وصعلوكاً وعبيداً وأرباباً وأسوداً وكلاباً. فهنالك تجد القوة الغاشمة والشريعة الظالمة وعماية التعصب العاسفة وسطوة الاستبداد العاصفة. وما ينجم عن ذلك ويتلوه من ظلمة العقول والإفهام ودياجير الشكوك والأوهام وتضارب العقائد والملل واصطدام المذاهب والنحل. ونتائج هذا من محاكم التفتيش والتعذيب والحروب الدينية ووقائع الصليب ومصارع الخارجة والمارقة. ومقاتل أهل البدع من الزنادقة. فإذا تأملت النظام الاجتماعي في ذلك العصر المظلم لم تجد سوى نظام الفروسية وما أدراك ما هو؟. . مزيج من الحمق والوحشية يمتاز بفرط التكلف المرذول والتصنع الممقوت وفاحش الخرافات والترهات والخزعبلات ونهاية الغلو والإغراق في تقديس النساء. ولا يزال لهذا النظام البائد المفترض بقية بين ظهرانينا أي في أوروبا الحديثة تظهر في هذه العصور الحديثة في مظهر ما يسمونه الآن احترام المرأة وهو كما لا يخفى نظام فاسد سخيف قد عوقبنا على اتباعه بالعقاب الطبيعي المنتظر - أعني طغيان المرأة وعتوها وغطرستها - مما لا يزال يستثير علينا بحق هزء الشرقيين