ولا خفاء في أن ذوي المطامع من قادة المسلمين كانوا كأمثالهم من زعماء المسيحية وملوكها يتخذون الدين ذريعة إلى غزو لأمم والشعوب للاستيلاء عليها قضاء لمآربهم. ولكنا كنا نقصر أبحاثنا على تأصل روح الشرائع والوصايا التي سنها محمد وأدلى بها إلى أتباعه تراثاً كريماً مشرفاً، فإن روح الاعتداء لا يتبين لها أدنى أثر في تلك الشريعة الغراء التي أدخلت قانون حقوق الأمم في نطاق الإسلام ودائرته وما برح المسلمون وهم في اوج مجدهم وعنفوان سلطانهم يخاطبون الأمم المغلوبة بأمثال هذه الكلمات:
كفوا العداء. واقصروا عن الاعتداء. وحالفونا نكن لكم من الأولياء ونمحصكم الحب والولاء. والحفاظ والوفاء. أو ادفعوا الجزية نجركم ونؤمنكم ونرعى حرمكم ونصون حريمكم ونحفظ حقوقكم. أو ادخلوا في ديننا نسوّكم بأنفسنا في كل شؤوننا وأحوالنا لا يكن ثمت فارق بينكم وبيننا - لكم مالنا وعليكم ما علينا.
إن القواعد الأساسية التي عليها بنت قواعد الإسلام الحربية لتدل على تلك الحكمة والسداد والبر والتقوى التي هي أكبر من مزايا الشريعة الإسلامية وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم. ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.
ولما حول المسلمون جيوشهم إلى فارس كان داعيهم إلى ذلك أحوال وظروف خاصة، فإن المناذرة وهم أسرة نصف عربية كانوا يحكمون تحت لواء المملكة الفارسية. وكانوا مع وجود العداوة السياسية بينهم وبين قياصرة الروم إلا أنهم كانوا مرتبطين بأولئك القياصرة بأواصر الدين (المسيحية) والمصلحة. ولذلك كان لأوائل حروب المسلمين مع الدولة الرومانية الشرقية تأثير على أهل الحيرة الذين هم رعية المناذرة.
وكانت ولايات الحيرة تشمل بقية عظيمة من الأرض تمتد من شواطئ الفرات غرباً متجاوزة صحراء العراق إلى ما يلي مراعي العرب الغسانيين (من أرض الشام) الذين كانوا ولاة القياصرة (ملوك الدولة الشرقية الرومانية).
وكانت منزلة ولاية الحيرة تحت سيادة الفرس تمائل منزلة ولاية جوديا تحت سيادة أغسطس قيصر أو طيبارنوس قيصر. وكان على الحيرة في أبان غزو المسلمين لبلاد فارس حاكم فارسي. ولكن الأكاسرة لفرط غيرتهم كانوا قد أشركوا في السلطة مع خليفة