وآخر فلا تفوتنك العودة إلى ربوعهم وأن تجمع وتستخلص من مطالعاتك كل يوم قوات جديدة وعلاجات مفيدة تطبب بها علل نفسك وأدواء مخاوفها من مثل الفقر والموت ونحو ذلك من الأرزاء والمصائب وأن تجعل لنفسك من مطالعتك اليومية مندوحة للفكر بها يستعين على هضم ما اكتسب منها في يومه وهي الطريقة التي أجرى عليها أنا فأني أطالع كثيراً ولكني أبقي لنفسي مندوحة ومستروحاً لذلك وهاك أتاوتي من الحكمة في هذا اليوم وهي مستمدة من أبيقور الذي ألجأ إلى ساحته عادة لمثل هذا الغرض لا عن عجز وتقصير وإنما للتوضيح والتنوير قال السرور بالفقر من الأحوال الشريفة ولعمري إذا كان ثَمَّ سرور ورضا في النفس فليس ثمّ فقر لأنه ليس بفقير ذلك الذي يقنع بقليله بل هو غني وإنما الفقير من تكثر أطماعه وتزداد رغائبه ولا غرو فإنه لا عبرة بأن تكون خزائن الإنسان طافحة بالنضار وحواصله مشحونة بالأقوات والأرزاق وأنه يملك العدد العديد من قطعان الأنعام وأن له من الموارد ما يعد بالجزيل إذا هو طمع وشره وتمني المزيد وهل من يستقل ما في يديه طمعاً فيما يتمنى ويؤمل الحصول عليه إلا فقير ما هو قياس الغني أليس هو لعمري الضروري أولاً ثم ما يكفي ثانياً؟
الرسالة الثالثة
(في اختيار الأصدقاء)
كتبت تخبرني أن الذي يحمل إليَّ رسائلك صديق لك وتحذرني منه في نفس هذا الكتاب وألاَّ أحدثه بكل ما يتعلق بك زاعماً أنه ثرثار يحدث بكل ما سمع فكتابك لعمري تضمن الضدين وجمع بين النقيضين وكأنك تقول لي أن هذا الشخص صديق لك وليس بصديق لك وكأن هذه الكلمة كلمة الصديق ما جاءت على أسلةِ قلمك إلا توفية للرسم وصورة لما اصطلح عليه في سعادة الناس كما اعتدنا مثلاً أن نسمي طلبة العلم أهل الفضل وأن ندعو من نقابله لأول مرة ونجهل اسمه بالسيد والمولي ولكن لندع هذه القشور اللفظية جانباً وننظر في اللباب والجوهر: فاعلم أن اعتقاد المرء في بعض الناس أنه صديقه ثم هو لا يراه موضع ثقته كما يرى نفسه ما هو إلا تطوح غريب وشطط عجيب في إدراك معنى الصداقة وحقيقتها، فصديقك يجب أن يكون موضع سرك في كل دخائلك ولكن بعد أن تكون قد اختبرته وسبرت أحواله إذ الثقة ينبغي أن تتبع الصداقة والحذر والاحتياط يجب أن