ولكن السيدة لم تكن ميالة هذه المرة إلى الإذعان لرغباته الفنية. على أنها وعدته إطالة المكث المرة التالية.
قال الفتى في نفسه (هذا شيء يغيظني جدا لقد بدأ العمل أن يستقيم وينتظم وبدأت أن أشعر بحلاوته ولذته) وهنا أحس بكمد وحرقة وتذكر أنه لما كان يعيش عيشته الفقيرة بمحله القديم لم يكن ثمة من يقطع عليه سلة عمله ولذته أو يقفه من شغله. ألم يكن صبيه نيكيتا يجلس كالصنم لا يتحرك ولوبقي ألف عام لقد كان يسمح لك أن تستمر في تصويره كما تشاء وتهوى بل لقد كان يغط في نومه على الهيئة التي تجلسه عليها. وهكذا طرح الفتى الفرشة وصحن الألوان على مقعد وهوساخط متبرم. ووقف أمام الصورة حنقاً مغتاظاً.
ولكن استمرار السيدة واقفة في الغرفة أيقظته من غفلته فاعتذر لها عن شرود ذهنه ثم شيعا إلى الباب وعند انصرافها وابنتها دعته إلى تناول الغداء في دارها الأسبوع التالي، فانقلب إلى غرفته فرحا مستبشراً. لقد فتنته السيدة الارسطوقراطية وابنتها إذ كان لم يزل حتى تلك الساعة يخال أمثالها من أهل هذه الطبقات أبعد منالا من الكواكب وإن الله لم يخلقهن إلا لامتطاء فاخر المركبات يشرفن منها على الصعاليك أمثاله إشرافه الكبر والخيلاء. والآن قد شاهد بعينيه إحدى العجائب بل المعجزات إذ تدلت إليه من ذلك الفلك الأعلى بعض تلك الكواكب وهبطت عليه من ذلك الملكوت الأسمى بعض تلك الملائكة فسلمتا عليه وكلمتاه وها هويرسم صورة إحداهما وقد دعتاه للغداء في قصرها الفاخر الارسطقراطي. لقد تملكه نوعا غريب من السرور وراح من فرط الطرب نشوان يترنح ولقد وكأن نفسه بأكلة شهية فوق العادة في ذلك اليوم وبجلسة في دار التمثيل ونزهة في مركبة لا داعي لها مطلقا.
وفي اليم التالي عادت السيدة الارسطوقراطية بابنتها فأجلسهما ثم نشر اللوحة بمهارة وشرع يرسم. وكان صحوالهواء وإشراق الجومما أعانه وساعده على إتقان عمله. فرأى في جلسته المليحة من عديد المحاسن ما لوأثبته في اللوحة لأكسب الصورة أنفس قيمة. ورأى أنه إذا نقل إلى اللوحة بغاية الدقة كلما عرضته الطبيعة على عينيه الآن من مظاهر الحسن والملاحة إذن لأخرج للناس ملحة بديعة وحسنة رائعة وآية ومعجزة عند ذلك وثب قلبه طربا إذ رأى أنه قد شرع يبرز على اللوحة من كامل المحاسن ما قد خفي على الأبصار