معانيها وليس يفهم معانيها إلا الألمعي الذكي الطبع الصافي الحسن الصحيح الوجدان مثل شاعرنا ابن حمديس - نقول في هذه البيئة التي كلها شاعر. أما البيآت المفحمة أو الجامدة أو الناطقة الصامتة الناطقة بضوضائها وقعقعة عرباتها الشتى الصنوف وأصوات الانتخاب ومجالس الشورى وأكاذيب السياسيين وعويل الصحف السياسية وراء هؤلاء كما تعول الأجراء الخائفة وراء الذئاب. والصامتة بصموت ملوكها عن رفد أهل النبوغ والتفرد، وإظّهار أغنيائها أياهم حتى كأنهم هم العقلاء والنابغة هو المجنون الأوحد، وصموت أبنائها إلا عن تعقبهم وقذعهم القذع القعد، وجهل نسائها الهاوي بهن إلى الحضيض الأوهد، فأن مثل هذه البيآت لا جزم تخمد فيها القرائح وتموت الهمم وتَبلّد القلوب ولا تنطق لعمري شاعراً ولا نصف شاعر كما قال الحكيم المعري أبو العلاء:
نلوم على تبلدها قلوباً ... تعاني من معيشتها جهادا
إذا ما النار لم تطعم وقوداً ... فأوشك أن تمر بها رمادا
نموذج من شعر ابن حمديس
أسلفنا أن ابن حمديس وفد إلى الأندلس على المعتمد بن عباد سنة إحدى وسبعين وأربعمائة بعد أن ملك صقلية روجر النورمندي وأن ذلك أي انفصاله عن وطنه وضياع استقلاله نال منه وأحفظه على الأيام. وقد يذكر القارئ كلمته المشهورة التي يتشوق بها صقلية بعد فراقه إياها وفيها يقول:
ذكرت صقلية والأسى ... يجدد للنفس تذكارها
فإن كنت أخرجت من جنة ... فأني أحدث أخبارها
ولولا ملوحة ماء البكا - ء حسبت دموعي أنهارها
ولم يقف به ال عند ذلك بل أخذ يحض قومه على جهاد الروم النورمنديين ويرسل إلى قواد صقلية بالمدح يذكرهم فيها بواجبهم ويمدح ملوك المسلمين في الأندلس وأفريقية لا استجداء واسترفاداً ولكن حثاً لهم على الجهاد والحروب فمن قوله يحث قومه على جهاد الروم:
بني الثغر لستم في الوغى من بني أمي ... إذا لم أصل بالعرب منكم على العجم
دعوا النوم أني خائف أن تدوسكم ... دواه وأنتم في الأماني مع الحلم
وردوا وجوه الخيل نمو كريهة ... مصرحة في الروم بالثكل واليتم