فأنت ترى أن ابن حمديس لم تلهه الأندلس وما فيها من رخاء ونعماء عن شؤون بلده والعمل على إخراج الروم النرمنديين منها وهكذا الشاعر الصادق فآية صدقه أن يكون تألمه ببنات الدهور، كالتذاذه ببنات الكرم والبنات الحور، فيكون شعوره بالألم واللذة والحسن والقبح وما إلى ذلك قوياً متفوقاً على شعور سائر الناس وإلا فإنه لا جرم غير شاعر - نقول أن ابن حمديس لم تشغله الأندلس ونعماؤها عن النظر في حال بلده وقول الشاعر الحماسي يحرض به قومه وملوك المسلمين على الجهاد ومطاردة الروم النرمنديين من بلاد الإسلام ولكن الشاعر كالمرآة الصافية تنعكس فيها الأشياء فتريكها كما هي أو كالماء يتلون لك بلون إنائه فكأنما ترى الإناء لا الماء فكان ابن حمديس إذا ذكر ما أصاب بلده هاج كما يهيج البركان وقال الشعر الحماسي الذي يهتاج الأفئدة ويثير الحمية ويحرك النفوس إلى الهيجاء كما تحركهن الموسيقى في هذه العصور والذي ذكرنا لك نموذجاً منه آنفاً وإذا أخذت عينه منظراً طبيعياً أخاذاً للنفوس مثل نهر من نهار الأندلس قال ما يحيل سمعك بصراً مثل قوله:
ومطرد الأجزاء يصقل متنه ... صبا أعلنت للعين ما في ضميره
جريح بأطراف الحصى كلما جرى ... عليها شكى أوجاعه بخريره
كأن جباناً ريع تحت حبابه ... فأقبل يلقى نفسه في غديره
كأن الدجى خط المجرة بيننا ... وقد كالت حافاته ببدوره
شربنا على حافاته دون سكرة ... نقبل شكراً منه عيني مديره
وإذا رأى قصراً من قصور الأندلس تلك التي كانت آية في الإتقان والزخرف والزينة قال