للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ما طبع عليه من الذكاء وسلامة النحيزة، فإن صح للعثماني أن يشكو عيباً في أمته فأدنى إلى الصواب أن يشكو منها الطفولة المرجوة، لا الشيخوخة الميؤسة.

فهذه عناصر الحياة والمنة متوفرة في الشعوب العثمانية، فهل يوفق حكامها إلى ضم أشتاتها ولم شعثها، وهل توائم الفرص هذه الطفولة فتنتقل إلى شباب غض وفتوة ناضرة؟؟

اقترح بعضهم فيما اقترحوه نظام اللامركزية ونحن نرى لمسألة اللامركزية وجهين، فهي من وجه منهما ضرورية لازمة، ومن الوجه الآخر فيها مجال للنظر.

فأما كونها ضرورية لازمة فيعززه ما هو معلوم من صعوبة تقدير نظام واحد لأمم وشعوب تختلف اختلافاً بعيداً في العادات والأخلاق والجنس واللغة والدين والموقع ومرافق الثروة والمصلحة المادية، واستحالة الأنافة على كل هذه الشؤن من مركز واحد بمعزل عما تشتمل عليه نفوس القوم من الرغائب وما هم مفتقرون إليه من المطالب، ويؤيده حق كل أمة في تصريف أمورها على الوجه الأوفق لها لاسيما في عصر اشرأبت فيه أعناق الأمم إلى الاستقلال واندفعت إليه بعزم لا تصده إلا قوة ليست فى يد الدولة الآن، وهي أحوج ما تكون إلى شد أزرها بقلوب رعاياها.

وأما مجال النظر فهو في تفاوت تلك الشعوب في الأهلية لحكم نفسها وتباينها فى الإخلاص للدولة. فإن منها ما لم يتعد بعد أبسط أنواع الحكومة البدوية. فلا يعقل أن يعهد إلى مثل هذه بسلطة كالتي تنالها أمة كالأمة. السورية أو التركية مثلاً. كما أن منها ما يكاد يحسب من جنس الأمة التركية. ومنها ما تجمعه بها وحدة دين أو عاطفة ولاء. ولا ينزع هؤلاء إلى الانشقاق عنها. وقد يغيرهم عليها تمييزها سواهم عنهم بهذه الحرية. هذا وربما هاج انفراد تلك الشعوب أطماع الدول التي تشتهيها فعجلت الوثبة عليها.

بيد أن مما لا مراء فيه أنه ليس من حسن السياسة ولا مما يوافق الدولة أن تقسر شعوبها على الاندماج في بنيتها قوة وغصباً. والعقل العصري لا يفهم من معنى الإخلاص أن يتقيد الشعب بالولاء لحكومة تحكمه لمصلحتها لا لمصلحته. وتضحي بشيء من حريته ومنفعته لغايتها لا لغايته. فإن لم يعتقد الشعب أنه يفيد من حكومته أكثر مما يفيده من سواها. وأنه يتمتع في ظلها بحرية لا يتمتع بأوسع منها في ظل حكومة أخرى. وأن بقاءه وارتقاءه آمن في تعلقه بها منهما في انفصاله عنهما فليس لتلك الحكومة حق ولاء عليه. وليس لها أن