وكذلك الحيوان، فإننا إذا راقبناه ألفيناه يفعل كما نفعل، ووجدنا أن هذه الحيطة أو ضبط النفس صادرة فيه عن نفس العاطفة التي تصدر عنها في الإنسان وأعني بها الحزم.
فالحيوان لا يختلف من هذه الوجهة عن الإنسان أي في أنه يلاحظ ما يؤثر به في روع الحيوانات الأخرى. ومن ثم يتعود أن يرى صورته معكوسة عن ملامحها وأن يدرك نفسه من تلقائها، على قدر ما عنده من الاستعداد للشعور بالوجدان.
والحيوان يتفرس حركات أصدقائه وأعدائه، ويفقه معاني أطوارها عن سجية فيه. ثم تصدر حركاته عن هذه المعرفة المجبولة، فيكف عن مناوأة الحيوانات التي لا شأن له معها، كما أنه يكشف نياتها مما يلوح على صفحات وجهها، ثم يواجهها بما تستحق من المسالمة أو العدوان - وهذا هو معنى الحق والعدل، أو عرفان مالك وما عليك ومن ثم فمبادئ العدل والحكمة - لا بل مبادئ كل تلك الفضائل التي يدعونها الفضائل السقراطية، إنما هي من طبيعة حيوانية، وأنها موحاة من تلك الغرائز التي تسوقنا إلى طلب القوت وتوقي الخطر على حياتنا.
فإذا تذكرنا أن الإنسان الراقي لم يتقدم في هذه الغرائز إلا في انتقاء أجود الطعام والتوسع في فهم آفات بقائه لا نكون قد تجاوزنا الصواب إذا قلنا أن خلاق الإنسان ليست إلا نسخة مهذبة من أخلاق الحيوان.
إلى اللا أدريين - لست أدري البتة ماذا أعمل؟ ولا أنا أدري ما ينبغي علي أن أعمل؟ لقد أصبت أيها اللاأدري في هذا الشك. ولكن ما لاريب فيه أنك تعمل في كل لحظة. لقد طالما التبس على الناس أمر الفعل بالانفعال واشتبه عليهم الإيجاب بالسلب وتلك لعمري لكنة في ألسنتهم لا تزول.
* * *
الأثرة والإيثار - أريد أن أعرف ما يدعو أحدنا إلى الإلقاء بنفسه في الماء لينتشل منه إنساناً وقع فيه أمام عينيه. على أنه ليس بينهما عاطفة رحم أو ود تستفزه إلى إنقاذه.
يقولون أننا نصنع ذلك في سبيل الشفقة، وأنه ليس في وقتنا هذا من يفكر إلا في غيره - كذلك تقول البلاهة والبلهاء.
ما لنا نحزن ونبتئس إذا نحن رأينا بعض الناس يبصق دماً وإن كنا نكرهه باطناً ولا نتمنى