للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من أجل بلوغه السفر المهيب والجوع والظمأ. أنا لا أقول لا تفرش الخوان للضيف ولا تهيّء له الفراش ولكني أقول لا تودع هذين جل سخائك وكرمك بل اجعل معظم ما لديك من ندى وجود فيما قد ذكرت الآن من شريف الخصال. وكريم الخلال. الأشرف الله كل دار أمات الفقر فيها الشهوة والهوى وأحي اليقين والهدى وأيقظ الفكرة والنهى. ونبه الفطنة والحجي. وأولع النفس بالتقى. فقرأ الذهن شرائع الطبيعة وعرف أسرار الكون وعبدت الروح الحب والحقيقة وجرت المروءة وسرت الفضيلة في كل عمل من أعمال الأسرة.

كم رأينا الفقر سر النجاح. وسبب الفلاح. وأس الصلاح. وأصل المجد والفضيلة والشرف. ولم تر حكومة قط عنيت بتعليم أبناء فقرائها وتقريب كنوز الأدب والحكمة من أطماعهم مثلما عنيت بذلك حكومتنا فكم من دار حقيرة راح فيها الذكاء والعلم والنبوغ مقرونة بالفقر والكد. أين الذي لا يؤثر في حصاة قلبه أن يرى أولاد الفقراء وقد فرغوا من أداء خدمة البيت يطيرون بأجنحة الشوق إلى مجلد رث الغلاف من أسفار بترارك أو جولد سمث يسترقون من ذلك الظالم الجبار - الوقت - ساعة عسجدية يغيبون أثناءها عن شعورهم في ظلال بساتين الأدب وشعاب أودية الخيال والشعر؟ وأن يرى فرح بعضهم ببعض إذ يتناشدون الأشعار ويتراوون الآثار. طوراً بالحقل وتارة بالحظيرة وأخرى بالساحة. ويتبادلون آراءهم في موضوع خطبة الأمس ودرس اليوم ومحاضرة الأستاذ وموعظة القسيس أو يتناولون بالنقد الأليم أحوال المدرسة والمدرسين وفتيات الدار مصغيات فاتحات الشفاه اشتياقاً. خافقات الصدور إشفاقاً. وإن يرى فرحة الغلام بإنجازه أول عمل من ترجمة أو إنشاء إذ يضحك لنفسه منفرداً في سطح الدار كالعابد في صومعته. أو يرى رؤية الغلام وأناته إذ يقرأ إعلاناً عن محاضرة الخطيب ماكريدي أو بوث أوكمبل بمكان كذا في ليلة كذا فيجعل يقارن بين غنم الذهاب وغرمه. وإن يرى فرط سرورهم باللقاء بعد تفرق ونطق وجوههم بالحبور قبل الألسن. وحرصهم أثناء الفراق على ادخار كل معسولة من القصص والأنباء ليصبوها في مسامع خلانهم عند اللقاء وينفثوها في قلوبهم. وارتياحهم لطرح ما حملوه أذهانهم من ذخائر العلم يتعارضونها عند المقابلة. بالله قل لي أي آصرة هذه التي تؤكد عقد ما بينهم أليست هي آصرة الفقر والحاجة آصرة الكدح والكد التي تبعد عنهم من الشهوات الخسيسة والملاذ الخبيثة ما يفسد أحساب أمثالهم من الأغنياء ويذهب