يقول فأهم الشروط التي تلزم لنهوض الأمم المائلة إلى السقوط تعميم نظام الجندية وجعله قاسياً جداً وأن تكون الأمة على الدوام مهددة بحروب طاحنة.
يريد الدكتور ليتخذ من نظام الجندية جبارة يشد بها عظام تلك الأمم التي رض الزمن عزائمها وكسر أعضاد همتها. وهو يعتقد أن الجندية سوق ترجع للرجل المتحضر رجولته واستقلاله وتشفيه من مرض الاشتراكية التي هي فناء الفرد في الدولة والتي تفضي بالأمة إلى أخس درجات الاسترقاق وتقتل في نفوس من خضعوا لحكمها كل همة وكل استقلال. يقول المؤلف قوله هذا على أن الناس يعلمون والمؤلف لا يجهل أن الرجل أضيع ما يكون استقلاله في الجندية، وأن الجندي في الجيش ليس إلا آلة تتحرك بإشارة من القائد وليس لها أن تعرف إلى أين هي مسخرة ولا في أي غرض يسخرونها. فإن كان في الجندية شيء من الخشونة فليس كل خشونة رجولة واستقلالا.
قال الدكتور في الفصل الرابع من الباب الأول: أشار توكفيل إلى تدرج الفروق الذي نبحث فيه بين طبقات الأمم في زمن لم تبلغ الصناعة فيه من الارتقاء مبلغها في الوقت الحاضر فقال كلما وسع الناس في تطبيق قانون توزيع العمل ضعفت قوة العامل وحد عقله وزادت تابعيته لغيره. فالصناعة تتقدم والصانع يتأخر والفرق ينمو كل يوم بين العامل ورئيسه.
وهي ملاحظة صادقة من توكفيل. فأن النظام الاقتصادي الحاضر قد أصار العامل قوة آلية وسلبه كل وسيلة إلى استخدام ذكائه وحذقه. فبعد أن كان العامل يصنع الأداة وحده فيفرغ ذكاءه في تجويدها ويتفنن في تكميلها وتحسينها، إذا هو الآن يتناول الجزء الصغير من تلك الأداة فيصنعه بلا روية، ويجيء المهندس أو رئس الصناع فيؤلف من تلك الأجزاء تلك الأداة على الوجه الذي رسمه فإذا خرج الصانع من المعمل لم ينتفع بصنعته وعجز عن العمل على انفراد ففقد مزية الاستقلال.
هذا النظام الاقتصادي المودي بالمواهب، المعطل للعقول، هو النظام الذي تثور عليه الاشتراكية. فما قامت الاشتراكية إلا لترقي مدارك العامل وترفع عنه حيف صاحب المعمل، وتجعله إنساناً ذا رغبة في عمله وغيرة عليه، وليس كما هو الآن آلة تدير آلة. فإن كان الدكتور يفتش عن الاستقلال فلا يبحث عنه في ثكنات الجنود ولكن ينشده في مبادئ الاشتراكية.