للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

عندي في أن الشعر كان عندهم في منزلة دون التي هو فيها عند غيرهم من الأمم والشعوب ولا شك أنهم لم يكونوا من سعة الروح بحيث يفطنون إلى جلالة الشعر ويدركون ماهيته وحقيقة وعظم وظيفة الشاعر وإلا لكانوا انصرفوا عن هذه السخافات التي أولعوا بها وأمعنوا فيها ولتناولوا من الأغراض الشعرية ما هو أشرف من المدح وأنبل من الهجاء.

وهذا باب من القول له اتساع وتفنن لا إلى غاية ولم نكن نحب أن نفتحه لئلا تستفتح أبواب من اللداد خير لنا أن تظل موصدة لأن عهد الناس بأمثال هذه الأبحاث ما زال حديثاً وما زالت عقول السواد الأعظم غضة ناعمة وليس الداء بحيث إذا رمت العلاج منه وجدت الإمكان فيه مع كل أحد مسعفاً والعي منجحا فانك لتلقى الجهد حتى تميل أحدهم عن رأي يكون له ثم إذا أنت قدته بالخزائم إلى النزول على رأيك والصدور عن فكرك عرض له خاطر يدهشه فعاد إلى رأس أمره ولكنا خلقاء أن لا ننكص عن أمر نحن أثرنا غباره وهجنا دفينه، وأحسب أن كثيراً من الناس تهجس في صدروهم هذه الآراء وإن كانوا يشفقون من إبرازها والمعالنة بها، والبلاء، والداء العياء، أنهم ربما ماروك ولا جّوك بألسنتهم، وهم بقلوبهم يطابقونك، جرياً وراء الجمهور وذهاباً إلى رأي الغوغاء والإسقاط.

أظهر عيوب الأدب العربي في تقديرنا أثنان فساد في الذوق، وشطط في الذهن عن السبيل السواء، وليس بخاف أن هذين العيبين متداخلان وأنك تستطيع أن ترد الثاني إلى الأول والأول إلى الثاني ولكنهما على تداخلهما واضحا الحدود.

وذلك أن العرب وإن كانوا بطبيعتهم شديدي الإحساس، لطاف الشعور، دقاق الإدراك، ككل البدو، إلا أن فيهم جفوة الأعراب وعنجهية البادية، فهم يجمعون بين فضائل البوادي ورذائلهم، وحسناتهم وسيئاتهم، ودماثتهم وتوعرهم، وهم لما ألفوا من الحرية لا يستطيعون أن يكسروا من غلواء نفوسهم، أو يحسبوا من أعنة عواطفهم، ففي كل حركاتهم وانفعالاتهم حدة جامحة بغير لجام، وشرّة ماضية بغير عنان، يبكون ويضحكون، ويثورون ويسكنون، ويحبون ويبغضون في غير رفق ولا أناة حتى لتكاد تلمح في كل أقوالهم وأفعالهم جميع مظاهر الغلو وآيات الحدة ولوائح الطغيان،. . . فكأنهم استعاروا من الشمس وقدتها، ومن الأرض حزونتها وشدتها، وكأن شعرهم العود النابت في الخلاء، لا الزهرة الزهراء في