متين من الصدق، ويخلصه من ربقة الشك وظلمة الشبهة. ويرفعه فوق هذا الجو المغيم وإن خاله صحواً، وهذا اليوم خير من يوم ميلاد. ففي ذلك اليوم صار حيواناً وفي هذا يتجلى نور اليقين ويبصر وجه الحقيقة. هذا أمله وذاك ما يرقب وينتظر. ولكن ما أكثر ما يخيب أمله ويضيع انتظاره. إذ يجد ذلك الرجل المجنح لا يصعد به إلى سماء وإنما ينغمس به في غيوم ثم يطفر به من سحابة إلى سحابة وهو أثناء ذلك يؤكد له أنه صاعد به إلى السماء. ويصدقه الآخر لقلة خبرته وتغيب عنه الحقيقة، وهي إن ذلك المجنح لا يعرف الطريق إلى السماء، وكل ما لديه هو أنه يعلو قليلاً كالسمكة أو الدجاجة ثم يهوي.
الشاعر يصف الأشياء فيزيد الجمال جمالاً والحسن حسناً. لأن لكل شيء حسن ظاهراً جميلاً وباطناً أجمل. وذلك الباطن الأجمل لا يبدو إلا لعين الشاعر التي هي أنفذ وأمضى، وأثقب وأذكى. وكما أن أشكال الكائنات ينطبع لها في إنسان عين الناظر وصور أجمل من الحقيقة وأبدع. فكذلك أرواح هذه الكائنات أو كما قلنا الآن بواطنها ينطبع لها في ذهن الشاعر صور أملح كذلك من الأصول وأبرع. وهذا من قبيل تطور الأشياء من حال إلى أرقى، ومن جوهر إلى أنقى. وإن لكل شيء روحاً تحوم فوقه فكما أن عين الناظر تعكس صورة ذلك الشيء، فكذلك ذهن الشاعر يعكس تلك الروح في هيئة غناء - أعني شعراً. أجل إن للبحر والجبل والنهر والزهر في الحقيقة أنغاماً تجري مع النسيم كالروائح العطرة لا يسمعها إلا ذوو الآذان التي هي أحدّ وأرهف_أعني الشعراء. ثم هم يحاولون كتابة هذه الأنغام فأكتبهم لها أشعرهم: وكذلك لا ينبغي أن تكون القافية في أي القصائد بأقل حسناً من النقش في الصدفة، ولا من تشابه الأشكال في طائفة الزهر. وأني أرى ازدواج العصافير ضرباً من الرباعيات. وأرى الزوبعة قصيدة حماسية. والصيف بزرعه وحصاده وخزنه قصيدة قصصية حسنة التقسيم مطردة السياق. فلم لا يتسرَّب إلى أرواحنا شعبة مما نراه في هذه الظواهر الطبيعية من الصحة والصفاء والنظام؟
أيها الشاعر! قد كان الفرسان في سالف الأزمان ينالون المجد والعلاء بالانقطاع إلى حماية عقيلة ذات حسب وجمال، وكانت مواطنهم يومذاك القلاع، وسوح الحرب والصراع. فأصبحت غاية المجد تنحاز لك بانقطاعك إلى آلهة الشعر بالمروج الخضر والغابات. فاعتزل رعاك الله الأوقات والعادات، والاصطلاحات والسياسات، والآراء والاعتبارات.