للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ويحمل روحنا على الامتزاج بروحه والله سبحانه وتعالى لم يتجل لنا إلا في صنعه ومخلوقاته أعني الكون والطبيعة فبالكون يتسنى لنا الإفصاح عن محبتنا لله عز وجل. والإعجاب بالطبيعة في جلال منظرها وعظيم اتساعها وحسن نظامها ودقيق سيرها صلاة وعبادة هذا إذا لم يكن استخدام أسرارها في منفعتنا واستدرار خيراتها هو الباعث لنا على ذلك.

أجل إن نفوسنا لا تتجه إلى الله عز وجل إذا كان همنا من التأمل في مخلوقاته استثمارها والانتفاع بأسرارها لأنا حينئذ لا نحب إلا أنفسنا ولا نفكر في غيرنا ولا نعطف على أحد سوانا إنما الصلاة أن تطيل نظرك في محاسن الطبيعة وتتغلغل بفكرك في عجائب الكون لتبع طرفك من الجمال ونفسك من الهيبة والخشوع. إن الله هو الكمال والدوام والغيب والخفاء لا تدركه الأبصار ولا تحيط به العقول، مهما حثثنا السير إليه وأجهدنا قوانا للاقتراب منه لا نقطع غير مرحلة صغيرة لأن مواهبنا محدودة ومحصورة يستحيل فك قيودها وإطلاقها من سجنها وإنما في قدرتنا أن نباعد بين جدران سجنها بأن نعيش لغيرنا ولا نفكر في أنفسنا ولا نتفانى في حب ذاتنا وأن نعني من شؤون الناس بمثل ما نعني بشؤوننا ونفسح المدى لقلوبنا ونزيد دائرة اهتمامنا ونمتزج بالمجموع حتى تفنى شخصياتنا.

الإنسان بطبعه ميال إلى الاعتزاز بنفسه والاعتداد بشأنه والاهتمام بشخصه والاعتقاد بأنه ركن العالم وقطب الرحى وهذا خلق مناف للدين والتقى إنما الدين في كل ما يكبح من جماحك ويقصر من غلوائك ويخمد من كبريائك ويردك إلى منزلتك ويعرفك بحقيقة قدرك وقيمة نفسك كما يقول بسكال وفيما يمر بنا من الهواتف الداعية لنا بالرجوع إلى الصواب وعدم النظر إلى الأمور بعين الأثرة وحب الذات وفيما يحملنا على الاعتقاد والشعور بأنا لسنا ذرة صغيرة في الكون لا قدر ولا أهمية لها في الوجود وفي كل ما يكشف لنا الغطاء عن واجبنا ويهدينا إلى العمل الصالح.

إن الفنون الجميلة تعد من قبيل الصلاة ولا أعني الفنون الدنيئة التي تثير اللذائذ وتوقظ الشهوات بل الفنون الراقية التي بخيالها وجمالها وخداعها للعين تصور الطبيعة وتمثل الحقيقة وتبعت في النفوس (كما يقول كانت) سروراً عاماً لا قصد له.