وفي تنزيل لفظ الحديث على هذا المقصود قلق، وهذا الإشكال يعرض كثيرًا في غير لفظ الحديث كقولك: ما جاءني زيد إلا أكرمته، وما أحسنت إلى لئيم إلا أساء إليّ. وما أنعمت على عمرو إلا شكر، وأمثال ذلك كثير في الكتاب والسنة وكلام العرب، والغرض في الجميع أن يكون الواقع بعد (إلاّ) مرتبًا مضمونة على مضمون ما بعد حرف النفي، أي: مهما جاءني زيد أكرمته، ومهما أحسنت إلى لئيم أساء وهكذا في سائر الأمثلة التي بهذه المثابة، وتطبيق اللفظ على هذا الغرض غير متأتٍ بحسب الظاهر، فإنه غاية ما يتخيل في هذا الاستثناء، أن يكون مفرغًا باعتبار الأحوال، فتكون الجملة الواقعة بعد (إلا) في محل نصب على أنها حال من الفاعل أو من المفعول المتقدم ذكره، أي: ما جاءني زيد إلا في حال كوني مكرمًا له، وما أحسنت إلى لئيم إلا في حال كونه مسيئًا. وهذا مشكل، فإن الحال مقيدة لعاملها ومقارنة له، وليس الإكرام مقيدًا بمجيء زيد بحسب المقصود، ولا مقارنُا له في الزمن، وكذا بقية الأمثلة.
فإن قلت: اجعل الحال مقدرة، أي: ما جاءني زيد إلا في حال كوني مريدًا لإكرامه، وما أنعمت على عمرو إلا في حال كونه مريدًا للشكر.
قلت: هذا وإن كان في نفسه معنى ممكن الاستقامة، فهو غير مفيد للغرض المصوغ لهذا الكلام، إذ المقصود وقوع مضمون ما بعد النفي، ولا يلزم من إنعامك على عمرو في حال إرادته للشكر أن يكون الشكر وقع بالفعل مرتبًا على الإنعام عليه، لجواز تخلف متعلق الإرادة الحادثة عنها. وكذا في بقية الأمثلة، فقد ظهر امتناع جعل ما بعد (إلاّ) حالاً، لا من قبيل الحال المحققة، ولا من قبيل الحال المقدرة، ولا مساغ لغير الحال فيه فيما يظهر.