الثاني: أن مثلَ هذا اللفظِ في العرفِ صار دالًّا على عدمِ ما لم يُدرَكْ، فإذا قيلَ: ما سمِعْنا، ولا دَرَيْنا، ولا رَأَيْنا؛ لِما شأنُه أن يُسمَعَ أو يُرَى، والمقصودُ (١): نفيُ وجودِه، وذِكْرُ نفيِ الإدراكِ دليلٌ على نَفْيِه.
يُبيِّنهُ الوجهُ الثالثُ: وهو أنَّ أنسًا كان يخدُمُ النبيَّ من حينَ قدِمَ النبيُّ المدينةَ إلى أن ماتَ، وكان يدخُلُ على نسائِه قبلَ الحجابِ، ويصحَبُه حَضَرًا وسَفَرًا، وحينَ حَجَّتِه كان تحتَ ناقتِه يسيلُ عليه لُعابُها، أفيُمكِنُ معَ هذا القربِ الخاصِّ والصحبةِ الطويلةِ ألَّا يسمعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يجهرُ بها معَ كونِه كان يجهرُ؟! هذا مما يُعلَمُ بالضرورةِ بُطْلانُه عادةً، ثم إنه صحِبَ أبا بكرٍ وعمرَ وعثمانَ، ولم يسمعْ معَ أنهم كانوا يَجهرونَ؟! هذا لا يمكنُ، بل هو تحريفٌ لا تأويلٌ، لو لم يرِدْ إلَّا هذا اللفظُ، كيفَ والآخَرُ صريحٌ في نَفْيِ الذِّكْرِ لها، فقال:«لم يكونُوا يذكرُونَها»، فهو تفسيرُ هذه الروايةِ.
وكِلا التأويلينِ ينفي قولَ مَن تأوَّلَ قولَه:«يَفْتتحونَ الصلاةَ بـ {الحمد الله رب العالمين}» أنه أراد السورةَ، فإنه قال:«لا يَذكرونَ {بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ} في أوَّلِ قِراءةٍ ولا في آخِرِها»، صَريحٌ في أنَّه قَصَد الافتتاحَ بالآيةِ، لا بِسورةِ الفاتحةِ.
(١) هكذا في النسخ الخطية ولعل الصواب: (فالمقصود)، وعبارة مجموع الفتاوى ٢٢/ ٤١٢، والفتاوى الكبرى ٢/ ١٦٧: (لما شأنه أن يسمعه ويراه، كان مقصوده بذلك نفي وجوده، وذكر نفي الإدراك دليل على ذلك).