وتنازعَ المتأخِّرونَ من أصحابِ أحمدَ والشافعيِّ وغيرِهما: هل على العاميِّ أن يلتزمَ مذهبَ واحدٍ بعَيْنِه منَ الأئمةِ المشهورينَ؛ بحيثُ يأخذُ بعزائمِه ورُخَصِه؟ على قولينِ.
والمشهورُ: أنه لا يجبُ، كما أنه ليس له أن يقلدَ في كلِّ مسألةٍ مَن يوافقُ غرَضَه، وليس له أن يقلِّدَ في المسألةِ الواحدةِ إذا كان الحقُّ له مَن لا يقلدُه إذا كان الحقُّ عليه، بل عليه باتفاقِ الأئمةِ أن يعدلَ بين نفْسِه وبينَ غيرِه في الأقوالِ، فإذا اعتَقدَ وجوبَ شيءٍ أو تحريمَه اعتَقدَ ذلك عليه وعلى مَن يماثِلُه.
مثالُه: شُفْعةُ الجوارِ، للعلماءِ فيها قولانِ، فمن اعتَقدَ أحدَ القولينِ فقد قال بقولِ طائفةٍ من علماءِ المسلمينَ.
وليس لأحدٍ ثبوتُ الشُّفْعةِ إذا كان هو الطالبَ، وانتفاؤُها إذا كان هو المطلوبَ كما يفعَلُه الظالمونَ أهلُ الأهواءِ، يتَّبِعونَ في المسألةِ الواحدةِ هَواهم، فيُوافِقونَ هذا القولَ تارةً، وهذا أخرى؛ متابعةً للهَوَى، لا مراعاةً للتقوى، وقد ذمَّ اللهُ مَن يتَّبِعُ الحقَّ إذا كان له لا عليه، كقوله:{وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكُنْ لهم الحق يأتوا اليه مذعنين} الآية، إلى قوله:{بل أولئك هم الظالمون}، إلى قوله:{إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا الى الله ورسوله ليحكم بيهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون}، إلى:{الفائزون}(١).
(١) ينظر أصل الفتوى من قوله: (ومن قال لا أصلي … ) إلى هنا في مجموع الفتاوى ٢٠/ ٢٢٠، الفتاوى الكبرى ٥/ ٩٥.