للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والذينَ جوَّزوا التداويَ بالمحرمِ قاسوا ذلك على إباحةِ المحرماتِ للمضطرِّ، وهذا ضعيفٌ لوجوهٍ:

أحدُها: أن المضطرَّ يحصُلُ مقصودُه يقينًا.

الثاني: لا طريقَ له غيرُ الأكلِ من هذه، وأما التداوي فلم يتعيَّنْ؛ فإن الأدويةَ أنواعٌ كثيرةٌ، وقد يحصلُ الشفاءُ بغيرِ الأدويةِ؛ كالدعاءِ والرُّقَى، وهو أعظمُ نوعَيِ الدواءِ؛ حتى قال بقراطُ: «نسبةُ طِبِّنا إلى طبِّ أربابِ الهياكلِ؛ كنسبةِ طبِّ العجائزِ إلى طِبِّنا»، وقد يحصلُ الشفاءُ بغيرِ سببٍ؛ بل بما يجعلُه الله من القوى في الجسدِ.

الثالثُ: أن أكلَ الميتةِ واجبٌ على المضطرِّ في ظاهرِ مذهبِ الأئمَّة الأربعة وغيرهم، والتداوي ليس بواجبٍ إلا عندَ طائفةٍ قليلةٍ؛ قالَه بعضُ أصحابِ الشافعيِّ وأحمدَ؛ بل تَنازَعوا: أيُّما أفضلُ؟

وحديثُ الجاريةِ التي كانت تُصرَعُ، وسألَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يدعوَ لها، فقال: «إن أحببتِ أن تصبري ولك الجنةُ، وإن أحببتِ دعوْتُ اللهَ أن يَشفِيَكِ»، فقالت: بل أصبِرُ، ولكني أتكشَّفُ، فادعُ اللهَ ألا أتكشَّفَ، فدعا الله بذلك (١)؛ يدلُّ على عدمِ وجوبِ التداوي.

وأيضًا: فخلقٌ من الصحابةِ لم يكونوا يتداوَوْنَ؛ بل فيهم من اختار المرضَ؛ كأُبَيٍّ (٢)،


(١) رواه البخاري (٥٦٥٢)، ومسلم (٢٥٧٦)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(٢) روى الطبراني في الكبير (٥٤٠)، وأبو نعيم في الحلية (١/ ٢٥٥)، عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: «اللهم إني أسألك حمى لا تمنعني خروجًا في سبيلك، ولا خروجًا إلى بيتك، ولا مسجد نبيك».

<<  <  ج: ص:  >  >>