لم تسقط القدس إلا في سنة ٤٨٢هـ في عهد الفاطميين غلاة الشيعة، أحفاد عبد الله بن سبأ اليهودي المؤسس الحقيقي لدين الشيعة، وقد سقطت القدس في عهد الخليفة المستعلي بالله لا أعلاه الله، وقد حاصروا القدس أربعين يوماً، وذلك عندما أتى إلى القدس سامعان الثاني وبطرس الناسك وبابا روما، فقاد الجيوش الصليبية، ومنهم ملوك أوروبا الوسطى وأوروبا الغربية، وفرضوا حصاراً حول القدس أربعين يوماً، حتى سلم قائد الجيش الفاطمي مستشار الدولة القدس، ورابط ألف ألف مقاتل صليبي، وقتل في المعارك حول القدس آلاف المسلمين، وامتلأت أرضية المسجد بدماء ستين ألف مقاتل مسلم، حتى خاض قائد الجيوش الصليبية في جثث المسلمين إلى ركبتيه، إذ لم يروا حرمة لهذه المدينة الطيبة ولا حرمة لمسلم، فقد قتلوا من قتلوا، وذبحوا من ذبحوا، ورفعوا الصليب على مسجد الصخرة.
وكم من مسجد جعلوه ديراً على محرابه نصب الصليب دم الخنزير فيه لهم خلوف وتحريق المصاحف فيه طيب وظلت القدس أسيرة إحدى وتسعين سنة، وجعلوا من قبة الصخرة مرتعاً لكلابهم، وربطوا الخيل والخنازير في أرجاء المسجد، حتى عسكر صلاح الدين الأيوبي في الخامس عشر من رجب، وفرض حصاراً حول القدس، ولما صارحوه على أن تفتح القدس بطريقة اشترطوها، قال: والله! لا تفتح إلا عنوة كما أخذت عنوة، فقال له مقدم النصارى الذي في القدس: إذاً نقتل من بأيدينا من أسرى المسلمين -وهم أربعة آلاف أسير مسلم- ونقتل أولادنا ونساءنا وجوارينا، ثم نهدم القدس وقبة الصخرة، ثم نخرج إلى العراء نقاتلكم قتال الموت، وهنا استجاب صلاح الدين إلى مطالبهم على أن يخرج كل رجل ويدفع عشرة دنانير، وكل امرأة خمسة دنانير، وعن كل صبي أو صبية ديناران، ومن يمكث أربعين يوماً ولا يخرج يقع أسيراً في أيدي المسلمين، وتم أسر ستة عشر ألف رجل وامرأة وولد، ودخلت جيوش المسلمين القدس بعد طول غيبة، في يوم الجمعة ٢٧ من شهر رجب سنة ٥٩٣هـ، دخل صلاح الدين الأيوبي، واهتموا بإزالة ما فيه من الصلبان والقساوسة والرهبان والخنازير، ثم غسلوا المسجد بالماء الطاهر، ثم بعد ذلك غسلوه مرة ثانية وقبة الصخرة بماء الورد والمسك الفاخر، وصدر المرسوم الصلاحي بأن يكون خطيب الجمعة في يوم الجمعة ٤ شعبان هو القاضي القرشي ابن الزكي.
ما أجمل عودة الأرض إلى أهلها! وما أجمل عودة الأرض إلى الذين جادوا بأنفسهم لله تبارك وتعالى! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا تقوم الساعة حتى يقتتل المسلمون واليهود، وحتى يختبئ اليهودي خلف الحجر والشجر، وينطق الحجر: يا مسلم يا عبد الله! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، إلا شجر الغرقد فإنه من شجرهم) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد الفتح بثمان، أي: في اليوم الرابع من شعبان علا صوت الأذان، وخسئ القسيسون والرهبان، وصمتت النواقيس والرهبان، وقرئ القرآن، وعلقت القناديل، وتلي التنزيل، وتنوعت العبادات، وكثرت الدعوات، وكبر الله تبارك وتعالى الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد؛ كبره كل قائم وقاعد، وكل راكع وساجد، وامتلأ الجامع، وسالت لرقة القلوب المدامع.
كما قال العلامة ابن كثير: وصعد القاضي المنبر، فكان أول ما قال:{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام:٤٥]، ثم أتى بجميع المحامد أي: آيات الحمد التي في القرآن الكريم.
فما أحلاها من عظة! ما تمسك المسلمون بدينهم إلا وأعزهم الله تبارك وتعالى، وما فرطوا فيه إلا وأذلهم الله تبارك وتعالى.