للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الصدق في القصد]

ومن درجات الصدق: صدق القصد، وهو الذي يكون بقلبه مريداً وجه الله عز وجل والدار الآخرة، فالدرجة الأولى: أنه لا يصبر على صحبة ضد، ولا يتحمل داعية تدعوه إلى نقض عقد، ولا يقعد عن الحال بجد.

ومعنى هذا الكلام أن الرجل الصادق الذي يريد وجه الله عز وجل والدار الآخرة، ويريد أن يصحح ما فاته وما فرط من حق الله عز وجل وغفلته عما أريد له من الحياة مع الحق فلا يصبر على صحبة ضد، فعندما يتوب لا يستطيع أن يعيش مع أهل البطالة والغفلة، ولا يصبر على صحبة ضد، كما يقول القائل: والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وحبك مقرون بأنفاسي ولا جلست إلى قوم أحدثهم إلا وأنت حديثي بين جلاسي وقال آخر: وشغلت عن فهم الحديث سوى ما كان عنك فإنه شغلي وأديم نحو محدثي وجهي لأرى أن قد عقلت وعندكم عقلي فالإنسان إذا رضي بصحبة أهل البطالة فليعلم أنه ميت يسعى إلى موتى مثله، زمن يسعى إلى زمنى مثله، قبر يسعى إلى قبور مثله.

ولا يصبر على صحبة ضد، ولا يقعد عن الحال بجد، فيقول: فاتني الكثير مع الله عز وجل وما بقيت إلا بقية قد تكون نفساً أو نفسين أو أنفاساً.

ولا ينقض مع الله عهد، فهذه هي الدرجة الأولى من درجات الصدق.

الدرجة الثانية: لا يتمنى الحياة إلا للحق، ولا يلتفت إلى ترفيه الرخص.

فلا يتمنى الحياة من أجل أن يستلذ بالشهوة من طعام أو شراب أو نكاح، وإنما يتمنى الحياة من أجل الحق، فكل شيء يقربه إلى الله عز وجل، كما قال سيدنا عمر: لولا ثلاث ما أحببت البقاء في الدنيا: لولا سيري على جياد الخيل في سبيل الله، أو أضع جبهتي في التراب ساجداً، أو أجالس قوماً ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر، يعني: لولا الجهاد والصلاة في الليل، وحضور مجالس العلم ما أحببت البقاء في الدنيا.

وسيدنا معاذ بن جبل مقدام العلماء يقول: اللهم إنك تعلم أني ما كنت أحب البقاء في الدنيا لكري الأنهار ولا لغرس الأشجار، وإنما لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.

قيل لـ حذيفة بن اليمان: ما تشتهي عند الموت، قال: أشتهي الجنة.

قيل لـ عمرو بن عبد قيس: ما تشتهي؟ قال: ليلة بعيد ما بين طرفيها، -ليلة شتاء طويلة- أحييها تهجداً لله عز وجل، هذه الدرجة الثانية من درجات الصدق.

الدرجة الثانية لا يتمنى الحياة إلا للحق، ولا يلتفت إلى ترفيه الرخص، يعني: إذا أعطاه الله رخصة مثل رخصة قصر الصلاة في السفر، فهو لا يأتيها من أجل الترفيه، وإنما يأتيها رضاء بحكم الله عز وجل وتنفيذاً لأمر الله عز وجل، فلا يلتفت إلى ترفيه الرخص، فقد يأتي شخص ويقول لك في مسألة الحجاب والنقاب، يقول: أبحث عن الأولى، وآخر يقول: أنا آخذ بقول جمهور أهل العلم أن الحجاب ليس بفرض، وآخر يقول: آخذ بقول الإمام أحمد أن النقاب هو فرض، والمصيبة أن يأتي أحد الناس يستوي عنده الراجح والمرجوح فيقول: هات لي أسهل قول قال به عالم، ثم يرقع دينه بأقوال العلماء السهلة، بل وبالأقوال التي ظهر أنها خاطئة.

والغناء لا يوجد شخص قال إنه يجوز، فيترك كل العلماء والأحاديث ويقول لك: قد قال ابن حزم بجوازها وقد خطأه العلماء فيها.

وبعض متأخري الأحناف قالوا: حجاب المرأة -وهذا قول ضعيف جداً ولا يقول به أحد- حجاب المرأة إلى منتصف ساقيها، فلو أتيت بامرأة لابسة إلى منتصف ساقيها وتغني الأغاني على مذهب ابن حزم إذاً: فهذه ممكن تكون أختاً ملتزمة! وكذلك يشرب نبيذ التمر على قول أبي حنيفة والبغداديين، وبعد ذلك لا يوجد التزام بالدين، وهذا يؤدي بصاحبه إلى الزندقة، كما قال أهل العلم: من تتبع رخص العلماء وأقوال العلماء الخاطئة وجعل منها ديناً يدين الله عز وجل به فهذا يؤدي به إلى الزندقة، فإن كان يوجد رخصة شرعية فافعلها فإن هذا من رحمة الله تبارك وتعالى بك، وإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معاصيه.

الدرجة الثالثة: الصدق في معرفة الصدق: ومعنى ذلك أنك أولاً تعرف الصدق، وما هو المخالف له، وما هي درجاته، ثم بعد ذلك تبدأ في بنيان أمرك على هذا، ونتيجة الصدق أن يرضى عنك ربنا، وتعرف أن الله عز وجل راضٍ عنك قالوا: حتى تصل إلى هذا فإنك تضطر إلى متابعة رسول الله في أي شيء، فإذا رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً وتابعته رضي الله عنك في النهاية.

إذاً: عليك أن تتحرى المتابعة لتفوز برضا الله عز وجل ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم.

وهناك صدق بعد هذا من مقامات الدين، وهو صدق في المحاسبة، فهل أنت فعلاً تحاسب نفسك؟ قال ميمون بن مهران: الصادق في محاسبته يحاسب نفسه على الفلتات والزلات والهفوات مثل الشريك البخيل، يظل قائماً على رأسك فيحاسبك على الشيء اليسير، وكذلك أنت تحاسب نفسك على كل هفوة وغفلة، وعلى كل بادرة بدرت منك في حق مولاك.

يقول عمر: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتهيئوا للعرض الأكبر على ربكم، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:١٨].

كان أحد العباد يأتي في موطن الجهاد يقول: اللهم إن نفسي هذه تزعم في الرخاء أنها تحبك، اللهم إن كانت صادقة فأعطها ما تريد، وإن كانت كاذبة فاحملها على ما تكره، وأطعم لحمي سباعاً وطيراً، وكان له ما أراد.

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم للأعرابي: (إن تصدق الله يصدقك)، وقال: (أفلح إن صدق).

وهذا رجل من العباد لبس أحسن ثيابه، وكان ثوباً أبيض وجبة بيضاء، فلما مر بمروج قال: ما أحلى تحدر الدم على هذه الجبة، وأشار إلى منطقة في صدره، فلما مر بهذا المرج قال: ما أجمل هذا الوادي لو أن رجلاً صاح: يا خيل الله اركبي! قالوا: فوالله! ما أتم كلمته حتى دعا داعي الجهاد، وقد رأى هو في المنام قبلها أن امرأة من أهل الجنة تقول له: سيكون إفطارك غداً عندنا في الجنة، فأصبح من يومه صائماً، فلما دعا داعي الجهاد كان في طليعة القوم، فقذف بالرمح في نفس المكان الذي أشار إليه، ولكن كان الجرح صغيراً لا يقتل نملة، فظل يداعب جرحه، ويقول: والله! إنك لصغير وقد يبارك الله في الصغير فيصبح كبيراً، ومع غروب الشمس فاضت روحه إلى بارئها، ومات وهو صائم.

الصدق في محاسبة النفس: توبة بن الصمة كان بالرقة وكان محاسباً لنفسه، وكان عمره اثنتين وستين سنة، فحسب عدد أيام عمره فوجدها (٢١٥٠٠) يوم، قال: كيف ألقى الجليل بـ (٢١٥٠٠) ذنب، هذا إذا كان في كل يوم ذنب واحد، فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب؟ فغشي عليه فمات من شدة محاسبته نفسه وكان صادقاً، فرأى ابنه من يقول له: يا لك رقدة إلى الفردوس الأعلى! أبوك حاسب نفسه حتى أنه مات في المحاسبة.

والصدق في التوبة: فلا تكون توبتك توبة علة، فقد يكون سن الرجل سبعين سنة، وبعد ذلك يقول: الحمد لله تبنا إلى الله عز وجل، وهو لم يتب بعد، ولكن بسبب انقطاع مادة الشهوة، ولذلك يتمنى الرجوع ويقول: ما أجمل الشباب! ويتذكر حلاوة مواقعة الذنب الفينة بعد الفينة، فهذه علامة أنه كذاب.

رجل يتوب لغرض دنيوي، يقول: أتوب من أجل أن يوسع الله لي الرزق، فهذا يتوب لعز التوبة ولا يتوب لذي الجلال، والرجل الذي يتذكر حلاوة الذنب الفينة بعد الفينة، هذا يدل على أن توبته توبة علة.

أما توبة الصدق مثل توبة ماعز فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (والله! لقد تاب توبة لو فرقت على أمة لوسعتهم)، ومثل صدق الغامدية في توبتها، عند أن سبها سيدنا خالد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مهلاً يا خالد! والله! لقد تابت توبة لو فعلها صاحب مكس لوسعته).

ومثل توبة الفضيل بن عياض فقد كان سارقاً، وكان صاحب نساء، وبينما هو ذات يوم يتسلق الجدار ليصل إلى معشوقته سمع قول الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:١٦] قال: آن الأوان يا رب! ونزل من على الجدار وأراد أن يذهب إلى خربة لينام فيها، فسمع التجار الذين كانوا في الخربة قالوا: إن الفضيل اليوم على الطريق، فلا تخرجوا.

فأعلن توبته، وتمر الأيام وسيدنا سفيان بن عيينة شيخ الإمام الشافعي يميل على يد الفضيل ويقبلها، وعندما مات قال هارون الرشيد: بموت الفضيل يرتفع الحزن والورع من الأرض.

سيدنا عبد الله بن المبارك يقول: كنت كلما قسا قلبي نظرت إلى وجه الفضيل فجدد لي الحزن فأمقت نفسي.

الفضيل بن عياض علم وسيد من سادات الربانيين، يثني عليه العلماء، وكان في البداية سارقاً وقاطعاً للطريق، وصاحباً للنساء.

وبشر بن الحارث الحافي فالإمام أحمد عندما ثبت في محنة خلق القرآن قال لهم: ماذا قال عنا بشر؟ قالوا: قد رضي قولك وفعلك، قال: الحمد الله الذي رضى بشراً بما صنعنا، وكان في بداية أمره يعشق اللهو، وكان غنياً من الأغنياء وكان يجمع في بيته مغنيات وقياناً، فمر بالقصر رجل من الزهاد، قال: لمن هذا القصر؛ لعبد أم لحر؟ -يسأل خادمة البيت- قالت: لحر، قال: صدقت يا بنية! والله لو كان عبداً لاستعمل آداب العبودية، أي: لو كان عبداً لله بالفعل فإنه سيتأدب مع ربه، فسمع بشر بن الحارث الحافي، فخرج وراءه وارتمى على الأرض ومرغ خديه على الأرض، وقال: بل عبد، ثم تاب، ولم يلبس حذاء طول عمره، وكان يقول: طريق صالحت به ربي ألتزمه ما حييت.

وعندما أكون صادقاً في التوبة فإن ربنا يعطني بساتين طاعات في القلب لا أشعر بها.

قال ذو النون المصري: رأيت ضفدعة خرجت من غدير وإذا بأفعى ترتقي ظهرها، فقلت: والله إن لهذه الضفدعة والحية لشأنا