[الرد على من قال إن النبي غير مأمور بالبلاغ]
فأما بطلان القول بأن النبي لم يأمره الله عز وجل بالبلاغ فمن أوجه: الدليل الأول: أن المولى عز وجل نص صراحة في القرآن الكريم أنه أرسل الأنبياء كما أرسل الرسل، والإرسال يقتضي البلاغ، فعندما أقول لك: أنا أرسلتك إلى قوم، فالمعنى: بعثتك إليهم حتى تبلغهم شيئاً معيناً، فالإرسال يقتضي البلاغ، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} [الحج:٥٢]، فالله عز وجل نص على أنه أرسل الرسل ووجههم كما وجه الأنبياء إلى قوم بعينهم، فالإرسال يقتضي البلاغ.
الدليل الثاني: ما رواه الإمام البخاري والإمام مسلم والإمام النسائي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط)، أي: النبي يأتي يوم القيامة ومعه جماعة من الناس، قال: (ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد).
فمعنى قوله: (رأيت النبي ومعه الرهط) أو: (رأيت النبي ومعه الرجل والرجلان) أن النبي تكلم معهم وبلغهم شيئاً من أمر الله، فاستجابوا له وامتنع الباقون، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (رأيت النبي)، لم يقل: رأيت الرسول.
فإذا قال أحد: إن الحديث مروي بالمعنى، قلنا: هذا رواه الإمام مسلم، والإمام مسلم كان يروي الحديث باللفظ دون المعنى.
الدليل الثالث: قول الله تبارك وتعالى عن يوسف: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:٣٩]، ويوسف كان نبياً ومع هذا بلغ الرسالة إلى صاحبي السجن بنص القرآن الكريم.
الدليل الرابع: قول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة:٢٤٦] وهذا يوحي أن النبي كان يبلغ شيئاً من وحي الله تبارك وتعالى وينفذ تعليمات الملك إلى قومه.
الدليل الخامس: وهو أوضح الأدلة على وجوب البلاغ على الأنبياء، وهو حديث الحارث الأشعري كما في الوابل الصيب: (إن الله سبحانه وتعالى أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، وإنه كاد أن يبطئ بها، فقال له عيسى عليه السلام: إن الله تعالى أمرك بخمس كلمات تعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم، فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي وأعذب).
ولو كان لا يجب عليه البلاغ لأنه نبي وليس برسول، لما قال: إني أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي وأعذب؛ لأن ترك الأمر المستحب لا يوجب عقاب المولى عز وجل.
إذاً: التعريف الذي نحن نختاره: أن الرسول هو من أوحي إليه بشرع جديد، والنبي هو المبعوث لتقرير شرع من قبله.
فسيدنا موسى عليه السلام نزل برسالة وهي التوراة، وبعد موت موسى عليه السلام قام أنبياء بشريعة التوراة وليس بشريعة جديدة، وإنما قاموا يبلغون ويقررون شريعة رسول الله الذي قبلهم، ولذلك فإن داود وسليمان وزكريا ويحيى -وهم أنبياء- بعثهم الله تبارك وتعالى بشريعة موسى عليه السلام، وهي التوراة، ولذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام البخاري: (إن بني إسرائيل كانت تسوسهم -أي: تحكمهم- الأنبياء بشريعة موسى، كلما مات نبي خلفه نبي).