[موعظة في تكريم الله للإنسان وغناه عنه وفقر الإنسان إليه]
يا جوهرة بمزبلة لا تعرف قدرها، أنت المراد من هذا الكون، إن الله يريدك لجواره، كم من ملك في السماوات ما ذاقوا طعاماً وما شربوا شراباً منذ أن خلقهم الله عز وجل ليس لهم مدحة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك).
كم من ملك في السماوات ما ذاقوا غمضاً منذ أن خلقهم الله عز وجل، ليس لهم مدحة، وأما المؤمن فقد قال تعالى:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}[السجدة:١٦].
يا من أسجد الله لأبيك الملائكة وأنت في صلبه، يا من أقام الله الأطهار من عباده الذين زكت أنفسهم يستغفرون لك قبل مجيئك إلى دار الدنيا، فهذا نوح عليه السلام يقول:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}[نوح:٢٨] بل يأمر الله نبيه أن يستغفر لك، قال تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}[محمد:١٩].
بل يجعل الله عز وجل حملة العرش يستغفرون لك.
تطوي المراحل عن حبيبك جاهداً وتظل تبكيه بدمع ساخن كذبتك نفسك لست من أحبابه تشكو البعاد وأنت عين الظالم كيف لا تحب من أنت به، وبقاؤك منه، وتسييرك بيده، ورجوعك إليه؟ وكل مستحسن في الوجود هو الذي حسنه، وهو الذي جمله وزينه وعطف النفوس إليه، فقد أعطاك أيتها النفس مالاً فأملي، وبلغك ما لم تطلبي، وستر عليك من القبيح ما لو فاح لضجت المشام.
كم عدو حط منك بالذم فرقاك، وكم أعطش من شراب الأنام خلقاً وسقاك، وكم أمات بعض من لم يبلغ مرادك وأبقاك.
من أعجب الأشياء أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تسمع داعيه ثم تتأخر عن إجابته، وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرض له، وأن تعلم عثرة القلب عند الخوض في غير حديثه ثم لا ترتاح إلى ذكره، وأعجب من هذا علمك أنك لابد لك منه، وأنك أحوج شيء إليه، وأنت فيما يبعدك عنه راغب.
عالج النفس من شهواتها وأمراضها ثم بعد ذلك تحقق بأمهات المقامات القلبية من التوحيد والعبودية والإخلاص له عز وجل، والصدق معه، والزهد والمحبة له، والخوف والرجاء منه وحده، فإن في القلب شعثاً لا يلمه إلا إقبال على الله عز وجل وخوف منه وإنابة إليه وتبتل إليه.
والخوف والرجاء والورع والصبر والرضا والتسليم والمراقبة والتوبة مقامات لابد للإنسان أن يحققها حتى تزكو نفسه، ثم بعد ذلك الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خير من زكت نفسه.