[حال العاصي عند الموت وفي القبر]
إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، فإذا كان عند الموت - وما أدراك ما سكرات الموت! هذه اللحظة التي يتغافل عنها ويتناساها كثير من الناس - وأقبل ملك الموت: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:٢٧]، وتبدلت بعد الحركات السكون، فهذه اللحظة شديدة قاسية على الظالمين، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ} [الأنعام:٩٣]، قال الإمام ابن كثير: أي: باسطوا أيديهم بالضرب.
وقال الله عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد:٢٧]، فالملائكة تضرب وجه الرجل ودبره، ويأتيه ملائكة سود الوجوه فيجلسون منه مد البصر، ثم يأتي ملك الموت فيقول: اخرجي أيتها الروح الخبيثة! كانت في الجسد الخبيث، فتخاف منه فتتفرق في أجزاء الجسد، فينتزعها من الجسد كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فتخرج منها كأنتن جيفة وقعت على وجه الأرض.
والحمد لله أنه ليس للذنوب رائحة في دار الدنيا، يقول محمد بن واسع: لو كان للذنوب رائحة ما استطاع أحد أن يجالسني من نتن رائحتي.
واحمدوا الله عز وجل على العافية، فقد ستر الله عليك من القبيح ما لو فاح لضجت المشام، فلو فاحت آثار الذنوب لزكمت الأنوف من نتن هذه الرائحة.
فتخرج منها كأنتن جيفة على وجه الأرض، فيناديه الملائكة بأقبح أسمائه: روح من هذه الخبيثة كانت في الجسد الخبيث؟! ثم إذا أرادوا أن يعرجوا بها إلى ملكوت السماوات فلا تفتح لها أبواب السماء، وتسقط من مكان شاهق إلى الأرض، ثم ينادى من قبل الله عز وجل: أن كذب عبدي، يعني: حتى ولو ما عوقب بالنار فيكفيه أن ملك الملوك يقول له: أنت كذاب! فمن وجد الله فماذا فقد؟ ومن فقد الله فماذا وجد؟! فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب متى صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب وليس هذا قول رابعة، وإنما هو قول أبي فراس الحمداني لابن عمه سيف الدولة الحمداني يوم أن وقع في أسر الروم، فتكاسل عن إنقاذه، فهذا قول المخلوق لمخلوق فما ظنك بقول المخلوق للخالق.
(ينادي مناد من قبل الله تعالى: أن كذب عبدي، فاكتبوا كتاب عبدي في سجين، وأعيدوه إلى الأرض، وافتحوا له باباً إلى النار -فيأتيه من سمومها وحميمها ما الله أعلم به-، وافرشوا له فراشاً من النار).
فأول الغيث قطرة! ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم تبتلون في قبوركم قريباً من فتنة المسيح الدجال، وعني تسألون).
فيأتيه منكر ونكير يسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ ومن رسولك؟ فإن كان الرجل فاسقاً أو عاصياً فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! ويقولان له: من رسولك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! فقد كان أبعد الناس عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يعرف عن رسوله ولا عن سنته شيئاً، ويقولان له: وما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! فيقال له: لا دريت ولا تليت، ثم يضيق عليه القبر حتى تختلف أضلاعه، ويوكل به ملك أصم أبكم أعمى معه مرزبة -أي: مطرقة من حديد- فيضربه بها ما بين أذنيه، فيصيح صيحة يسمعه كل من على وجه الأرض إلا الثقلين، ثم يعيد الله خلقه، وتكون حاله هكذا إلى يوم القيامة.
وفي الحديث الصحيح: (فيجلس كهيئة المنهوش) أي: مثل الرجل الذي لدغه ثعبان أو حية أو عقرب، فتصور حياة هذا الرجل وحالته هذه! فهذا شيء من عذاب البرزخ! {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:٤٦].