[تفسير قوله تعالى: (وأنت حل بهذا البلد)]
اختلف علماء التفسير في معنى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:٢] على ثلاثة أقوال: القول الأول: حلال لك ما تفعله في هذا البلد لحظة دخولك إياها، فاقتل من شئت، واعف عمن شئت، وعندما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة كان يقول: (من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بيته فهو آمن)، والرسول صلى الله عليه وسلم أمر بقتل عشرة من مجرمي الحرب الذين ناصبوا الدعوة العداء وإن تعلقوا بأستار الكعبة، ومنهم: عبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة وعكرمة بن أبي جهل وآخرون، ثم بعد ذلك عفا رسول الله عن سبعة، وقتل الصحابة الثلاثة، ومنهم رجل وجدوه قد تعلق بأستار الكعبة فقتلوه وهو متعلق بأستار الكعبة؛ تنفيذاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله لم يحل مكة لأحد من قبلي، ولا تحل لأحد من بعدي، وما أحلت لي إلا ساعة من نهار، ثم عادت حراماً بحرمة الله إلى يوم القيامة).
وهذه خاصية أعطاها الله عز وجل للمصطفى صلى الله عليه وسلم ساعة دخول مكة فقط، وهذه من الخصائص المؤقتة لرسول الله.
وهذه السورة مكية، نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مضطهد معذب بمكة، فحينها يقول الله تبارك وتعالى له: ستفتح هذه البلدة التي ناصبتك العداء، وبأمر الله افعل فيها ما شئت، ففي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في يوم من الأيام ستفتح له مكة، وتنزل عليه هذه السورة برداً وسلاماً على قلبه.
القول الثاني: ((وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ)) أي: وكل شيء فيك حلال لأهل مكة، فهم لا يصطادون في مكة ولا يقتلون الدواب، ولا يقلعون الشجر ولا الحشيش الرطب في مكة، ويحرمون الصيد فيها، ومع ذلك يجتمعون ويتفقون على قتلك؟! كيف يصح هذا في الأذهان؟! لا يقتلون القاتل إذا دخل في رحاب مكة ثم يتفقون على قتلك أنت؟! ((وَأَنْتَ حِلٌّ)) أي: وأنت مهدر الدم حلال أن يقتلوك، فأي مقياس هذا وأي منطق؟ إنهم يعفون عن المجرم القاتل وألا يقتلوا صيداً وألا يقطعوا شجراً، ثم يستحلون منك ما لا يستحلون من القاتل؟! فهل يعقل أن يقتلوك؟ أو أن يشردوك أو يخرجوك من بلدتك؟ ويح قوم جفوا نبياً بأرض ألفته ضبابها والظباء وسلوه وحن جذع إليه وقلوه ورده الغرباء ونحا المصطفى المدينة واشتا قت إليه من مكة الأنحاء والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إني لأعلم حجراً بمكة كان يسلم علي قبل البعثة)، فكان كلما مرّ على هذا الحجر قال له: السلام عليك يا رسول الله! فالحجارة تعرف الصالحين، وتسلم على الأنبياء والمرسلين، وتقسو القلوب فتطرد أنبياء الله تبارك وتعالى! قال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} [النمل:٥٦] وذنبهم {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:٥٦].
وقال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:٨].
فإذا عرف الشباب طريق المساجد فهذا تطرف وإذا بعدوا عن المساجد وشربوا السجائر فهذا عين الصواب! القول الثالث: ((وَأَنْتَ حِلٌّ بهذا البلد)) أي: وأنت مقيم بهذا البلد، يقسم الله تبارك وتعالى بإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، وإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة شرف لها، فهي حرام وأمان، وإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم أمان، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:٣٣]، فهو مصدر الأمان لهم ومع هذا يهددون أمنك، ويودون قتلك! إذاً: يقسم الله تبارك وتعالى بإقامة رسول الله في مكة، فقد زادها شرفاً فوق شرفها.
فالمولى تبارك وتعالى يقسم بإقامة الرسول في مكة، ويعلم أنه مضطهد ومعذب ومشرد بين قومه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يذهب إلى القبائل، فيمشي وراءه أبو لهب فيقول: لا تتبعوا هذا الصابئ، وكان يرشق بالحجارة إذا عرض نفسه على قومه، فكان يقول: (من يجيرني حتى أبلغ رسالات ربي أضمن له الجنة).
فكان أبو جهل وأبو لهب والسفهاء وراءه، يعرض نفسه على القبائل وهو سيد الناس وقد لاقى ما لاقى حتى إنهم كانوا يضعون عليه سلا الجزور وهو ساجد -بأبي هو وأمي- صلى الله عليه وسلم، فعز على سيدنا أبي بكر ما يفعل برسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يدفعهم عنه، وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ قالوا: من هذا؟ قالوا: أبو بكر المجنون، فالذي يدافع عنه مجنون، فتركوا رسول الله ثم أقبلوا على أبي بكر، فجعل عقبة بن ربيعة يضربه بنعلين مخصوفتين، وأبو بكر سماه الله تبارك وتعالى في السماء صديقاً، قال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:٣٣]، وهو {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة:٤٠]، فكان هذا المجرم يضربه بنعلين مخصوفتين حتى انحرف وجهه، ونزا على بطنه برجله، حتى أتت بنو تيم فأنقذته وهم لا يشكون في موته، وغشي عليه، وأول كلمة نطق بها بعد أن أفاق: ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وآخر شيء أنت في كل هجعة وأول شيء أنت عند قبولي فجعل قومه يلوكونه بألسنتهم، ثم قال: والله لا أذوق طعاماً حتى أنظر ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تقول السيدة أسماء: فجعل أبو بكر لا يمس شيئاً من جدائل شعره إلا سقطت مع لحم الرأس، وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام، واعتمد على أخت عمر بن الخطاب حتى وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حال الصديق رق له وبكى، فما ظنك بفعلهم برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهذا شرف للدعاة أن المولى تبارك وتعالى يقسم بتعب رسول الله واضطهاده وكدحه في سبيل دينه في هذا البلد.