[من أخبار الصادقين]
عبد القادر الحسيني رجل عظيم، استشهد وهو يدافع عن القدس، وابنه هو المسئول الآن عن ملف القضية الفلسطينية، هذا كان خريج الجامعة الأمريكية في القاهرة، وفي حفل التخرج، وبعد أن صعد المنصة ليتسلم شهادته، قال أمام الجميع: إنكم ما أتيتم لبلادنا إلا للتفجير والتنصير، وهناك كتب عدة في الجامعة تدعو إلى هذا، ثم أتى بالشهادة فمزقها ووضعها تحت قدميه.
إن تصدق الله يصدقك.
وهذا الرجل في أثناء حرب ثمانية وأربعين، وقد أوشكت القدس على السقوط، ذهب إلى سوريا يستنجد من اللجنة العربية لإنقاذ القدس، ويطلب سلاحاً يدافع به عن القدس، فلم يعطوه، فعاد مرة ثانية من سوريا وهو يقسم ألا تسقط القدس حتى يقتل في سبيل الله عز وجل، وظل بمدفعه يقاتل أربعة وعشرين ساعة متكاملة، والقوات التي أمامه تظن أنه كتيبة فدائية تقاتلها، حتى سقط الرجل شهيداً.
إن تصدق الله يصدقك.
مفتاح الصديقية، وهي درجة ثانية بعد النبوة، صدق في الأقوال، وصدق في الأحوال وهو الإخلاص وصدق في الأعمال واستواء السريرة مع العلانية ولقد كان رسول المولى عز وجل يسأله: أن يرزقه مدخل صدق، ومخرج صدق، فقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء:٨٠].
وسيدنا إبراهيم سأل ربه فقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:٨٤]، وقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:٥٤ - ٥٥]، وقال الله تبارك وتعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس:٢].
ومعنى: أدخلني مدخل الصدق أي: كل دخول في أي أرض يكون بالله ولله، كدخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فقد خرج من دياره تاركاً وراءه كل شيء: الأهل والأحباب والمال، خرج فاراً بدينه، فلما أتى إلى المدينة وكان دخوله صادقاً بالله وفي الله أثر هذا الدخول في عبد الله بن سلام زعيم اليهود، قال عن يوم دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة: (لما نظرت إليه علمت أنه ليس بوجه كذاب على الله، فكان أول ما سمعته منه: أيها الناس! أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)، هذا مدخل الصدق.
ومخرج الصدق: كل خروج يكون لله عز وجل، كخروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وخروجه أيضاً من مكة لينشر دعوة الله عز وجل: ويح قوم جفوا نبياً بأرض ألفته ضبابها والظباء وسلوه وحن جذع إليه وقلوه ووده الغرباء ونحا المصطفى المدينة واشتا قت إليه من مكة الأنحاء وخروج الكذب: كخروج أبي جهل في يوم بدر، قالوا له: قد أفلتت العير من محمد فارجع سالماً، قال: لا والله! والله لا نعود ولا نرجع حتى نمكث ببدر ثلاثة أيام، نشرب الخمور وتعزف لنا القيان، فتسمع بنا العرب فتهابنا، فأذله الله عز وجل في يوم بدر.
كل خروج من البيت أو إلى أي مكان تكون فيه ضامناً على الله عز وجل وأنك ستخرج لله وفي لله، فهو خروج الصدق.
ولسان الصدق: هو الثناء العطر من الناس بعد ممات الرجل، قال الله تبارك وتعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات:١٠٨ - ١٠٩].
فاحذر أن يفضحك ميراثك يوم موتك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم لما مروا عليه بجنازة: (مستريح أو مستراح منه، ولما سألوه عن المستراح منه؟ قال: العبد المنافق أو الكافر تستريح منه البلاد والعباد والشجر والدواب).
ومقعد صدق أي: الجنة، وقدم صدق: ما تقدمه من إيمان بالله ورسوله، ولذلك فسروها: بأنها محمد صلى الله عليه وسلم، أو ما تقدم عليه وهي الجنة.
الدين كله صدق، فمن زاد عليك في الصدق، فقد زاد عليك في الدين.
قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:٩٥]، وقال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:١٢٢]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:٨٧]، وقال الله تبارك وتعالى: ((وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ)) أي: الدين {وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:٣٣] أي: الصديق رضي الله عنه.
يقول سيدنا علي: والذي نفسي بيده! إن الله سمى أبا بكر صديقاً، يعرفه المسلمون بنعته وصفته، وكثير من المسلمين لا يعرفون اسم أبي بكر الصديق الحقيقي، إنما يعرفونه بكنيته وبصفته.
الصدق يرفع صاحبه، وانظر إلى الصديق الأنصاري ومنزلته في الأنصار كمنزلة أبي بكر في المهاجرين، وهو سيدنا سعد بن معاذ رضي الله عنه لما قال: (يا رسول الله! امض لما أمرك الله به، فإنا والله صدق في الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك)، وهذا الرجل حالف يهود بني قريظة قبل الإسلام فكانوا من حلفائه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعشر الأنصار: (قوموا إلى سيدكم) فأنزلوه، وكان مريضاً، وسأل الله عز وجل ألا يمته حتى تقر عينه من يهود بني قريظة، وقد قالوا في النبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا، ونالوا منه بألسنتهم، وكان قد أصيب سعد في أكحله، وكان الدم لا يرقأ، وبكى أبو بكر وبكى عمر وبكى النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل النبي حوله من يرقع جرحه، وما اندمل الجرح، فرفع سعد يده يدعو إلى السماء، وقال: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من يهود بني قريظة، قالوا: فوالله لقد حبس الشريان فما قطرت منه بعد ذلك قطرة واحدة، ثم حاصر النبي صلى الله عليه وسلم يهود بني قريظة وقاتلهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ وهم يظنون أنه سيجاملهم.
وحكم فيهم سعد بحكم الله من فوق سبع سماوات: أن تقتل مقاتلتهم، وأن تسبى نساؤهم وذراريهم، وهذا نفس الحكم الموجود في توراتهم المحرفة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لقد حكمت فيهم يا سعد! بحكم الله من فوق سبع سماوات).
فتصوروا أن رجلاً يمشي على الأرض يوافق حكمه حكم الله عز وجل من فوق السماوات السبع، أي شرف لهذا الصادق أعظم من هذا.
ثم قال سعد بعد أن قتل اليهود على ضوء سعف النخيل: اللهم افجره شوقاً إليك، فانفجر الشريان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي إلى سعد كل يوم، ويسأل عن أخباره رفيدة، فلما أتى إلى رفيدة قالت: يا رسول الله! اشتد به الوجع، فأتى قومه بني عبد الأشهل فحملوه إلى ديارهم، ونزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (يا رسول الله! من هذا الذي مات من أمتك؟ نزل اليوم إلى الأرض سبعون ألف ملك، ما نزلوا إلى الأرض قبل يومنا هذا).
فالنبي صلى الله عليه وسلم أسرع المشي حتى قال الصحابة: (يا رسول الله! تقطعت شسوعنا ونعالنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخاف أن تسبقنا إليه الملائكة فتغسله كما غسلت حنظلة).
ولما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته وجد أمه تنوح عليه، فقال: (كل نائحة تكذب إلا أم سعد، أو إلا نائحة سعد)، جعلت تقول: ويل أم سعد سعداً صرامة وجداً وفارساً معداً.
ولما حملوه قال المنافقون: ما وجدنا أخف حملاً منه، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أن الملائكة قد حملته معهم، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن السرير اهتز فرحاً بموت سعد بن معاذ)، وفي رواية: (إن عرش الرحمن اهتز فرحاً بموت سعد بن معاذ)، وهذه هي الجائزة العظمى للصدق.