[معاني الانتصار]
إن الانتصار له ثمانية معاني، فإذا تحقق واحد منها فقد تحقق معنى الانتصار، وقد تتحقق كلها في زمان معين أو في مكان معين، وهي ما يلي: المعنى الأول: وهو المتبادر إلى الذهن، انتصار الدعوة والداعية، فقد تنتصر الدعوة عند الناس ولا ينتصر الداعية كغلام الراهب لما قتل، فقد انتصر منهجه وانتصرت دعوته، ولم يمكن انتصار منهج غلام الراهب إلا بقتله، حيث قال للملك الظالم الطاغية: إنك لن تقتلني حتى تأخذ من كنانتي سهماً ثم تجمع أهل البلدة وتقول: باسم الله رب الغلام، فقتل الداعية وآمنت القرية بأكملها، ووقع المحظور.
ويتحقق هذا المعنى وهو أن الله تبارك وتعالى يهلك الظالمين في حياة الرسل أو في حياة الدعاة، ويمكن للرسل أو الدعاة تطبيق شرع الله تبارك وتعالى في الأرض.
وقد تحقق هذا المعنى لبعض الرسل ومنهم: سيدنا داود، قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص:٢٦]، ويقول المولى تبارك وتعالى: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:٢٥١].
وتحقق أيضاً لسيدنا سليمان الذي آتاه الله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وتحقق هذا المعنى أيضاً لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله له تبارك وتعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:١]، وقال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:١ - ٣]، واستطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقيم دولة إسلامية بسيطة، ويحقق منهاج الله تبارك وتعالى في الأرض.
هذا هو المعنى الأول وهو المتبادر إلى الذهن، وهو الذي يدون في ذهن أكثر الشباب المنتمي للحركة الإسلامية، وهو أن يمكن المولى تبارك وتعالى لشرعه أن يحكم الأرض وأن يسود، لأن الله تبارك وتعالى فطر النفوس على محبة الخير وعلى استعجاله، {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:١٣]، والإنسان يود أن تكتحل عينه بقيام دولة الخلافة، ويود أن يستنشق عبير الطاعة والذكر وتطبيق شرع الله تبارك وتعالى في الأرض، ومع بعد الناس عن دين الله تبارك وتعالى يتمنى الإنسان أنه يغمض عينيه ثم يفتحهما ودولة الإسلام قائمة في الأرض، هذا هو المعنى الأول المتبادر للذهن.
ولكن هل معنى الانتصار هو هذا المعنى فقط؟ ولو قصرنا الانتصار على هذا المعنى فقط فأين نحن من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي الأمم فرأيت النبي يأتي يوم القيامة ومعه الرهط، والنبي يأتي ومعه الرجل والرجلان، والنبي يأتي وليس معه أحد)، وهذا نبي من الأنبياء يقرع أبواب الجنة ولم يستجب له أحد، فهل هو ما استطاع أن يقيم دولة لله في الأرض وأن يطبق فيها منهاج الله تبارك وتعالى؟! هل معنى ذلك أن هذا النبي فشل في دعوته؟ فحصرنا لمفهوم الانتصار في المعنى الأول فقط معناه أن النبي قد فشل في دعوته، ولكن الانتصار له معان كثيرة كما سنوضحها.
فالنصر يكون بغلبة الرسل وأنبياء الله والدعاة على أهل الباطل والمعاندين لدعوة الرسل، ويمكن الله تبارك وتعالى لهم من قيام دولة في الأرض تطبق منهاج الله تبارك وتعالى.
المعنى الثاني: إهلاك الله تبارك وتعالى للظالمين في حياة الرسل، إن المولى تبارك وتعالى ينتقم من الظالمين في حياة الرسل إذا لم يتمكنوا من إقامة دولة إسلامية لهم، كسيدنا نوح عليه الصلاة والسلام، قال الله تبارك وتعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:١٠ - ١٤].
فما قص الله تبارك وتعالى علينا أن نوحاً عليه الصلاة والسلام استطاع أن يقيم دولة يطبق فيها حكم الله تبارك وتعالى، فكل ما في القرآن أن إهلاك الله تبارك وتعالى للظالمين في حياة سيدنا نوح كان نصراً {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:١٠]، واستجاب الله لدعاء نبيه بالنصر، وتحقق هذا النصر بإهلاك الظالمين.
المعنى الثالث: أن ينتقم المولى تبارك وتعالى من أعداء الرسل أو الدعاة بعد موت الرسل أو موت الدعاة ورحيلهم إلى الله تبارك وتعالى، فسيدنا يحيى عليه الصلاة والسلام السيد الحصور الذي قال عنه الله تبارك وتعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:١٢] أي: آتاه الله النبوة من الصغر، تأتيه مومسة من مومسات بني إسرائيل -أي: امرأة بغية- وكانت ابنتها عشيقة للملك، فلما امتنع يحيى عليه الصلاة والسلام من مجاراتها قالت لابنتها: إن أراد منك الملك شيئاً فقولي له: رأس يحيى، وفي إحدى جلسات الملك مع العشيقة طلبت منه مطلباً واحداً فقط وهو رأس يحيى عليه الصلاة والسلام، فبعث بالجزارين فأتوا برأسه، ثم أرسلت بهذا الرأس إلى أمها وأرادت هذه أن تقبل الفم الذي ما نالت منه شيئاً في دار الدنيا، وكلما أرادت أن تقبله يطير الفم من بين يديها، ثم أتت الابنة لزيارة أمها فخسف الله بقدمها في الأرض ثم بساقها ثم بحقوها ثم بصدرها فلما رأت الأم أن ابنتها ستغيب تمنت لو يبقى لها تذكار من ابنتها، فقالت: اقطعوا رأسها يبقى هذا الرأس عندي، فكما قتل يحيى قتلت هذه المرأة التي كانت سبباً في قتله، ثم سلط الله بختنصر على اليهود فذبح منهم الآلاف المؤلفة لدم يحيى حتى سكن هذا الدم، فهذا انتقام من الله تبارك وتعالى لرسله بعد موت الرسل، يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر:٥١].
قال الإمام ابن جرير الطبري: إنا بإعلائنا لهم على من كذبهم، أو بانتقامنا في الحياة الدنيا من مكذبيهم بعد وفاة رسلنا، كالذي فعلناه بقتلة يحيى بن زكريا بتسليطنا بختنصر عليهم حتى انتصرنا به من قتلهم له.
فهذا نص من ابن جرير الطبري أن الانتصار قد يحدث لنبي بعد وفاته، وهذا معنى من معاني الانتصار.
المعنى الرابع: أن ما يتصوره الناس هزيمة للرسل أو للداعية هو في ذاته أكبر نصر، فالقتل للداعية نصر، قال الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:١٨٥]، فقتل الداعية انتصار له، يقول الله تبارك وتعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:١٦٩]، فإن كان الله تبارك وتعالى يمن على نسمات عباده المؤمنين -أي: أرواحهم- بقول رسوله صلى الله عليه وسلم: (نسمة المؤمن -يعني روح المؤمن بعد موته- في حواصل طير على نهر بباب الجنة، تلعق من ثمار الجنة).
يعني: أن المولى تبارك وتعالى يأذن لأرواح المؤمنين أن تكون في حواصل طير تكون على شاطئ نهر بباب الجنة، تأكل من ثمار الجنة، ولكن لا يأذن الله لها بأن تسرح في الجنة، فتظل واقفة على باب الجنة وتأكل من الثمار ولا تسرح في أرجاء الجنة، فهذه روح المؤمن العادي أما روح الشهيد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في أرجاء الجنة حيث تشاء، ثم تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة بأرجاء العرش)، فأرواح الشهداء تتنقل في الجنة كما تشاء؛ لأنها حبست أقدامها عن الفرار من أرض المعركة في دار الدنيا، ثم تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة بأرجاء العرش.
يا ويح شعري وما ارتفعت بنا همم إلى الجنان وتالي القوم أواب إلى كواعب للأطراف قاصرة وظل طوبى وعصر الشدو ينساب إلى قناديل ذهب علقت شرفاً بعرش ربي لمن قتلوا وما غابوا والصادقون يعدون هذا نصراً، فـ حرام بن ملحان حينما طعن في غزوة مؤتة لطخ الدم على وجهه وقال: فزت ورب الكعبة! وعمير بن الحمام ألقى بتمراته وقال: إنها لحياة طويلة إن مكثت في الدنيا حتى آكل تمراتي هذه.
وتغنى جعفر الطيار بقوله: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها علي إن لاقيتها ضرابها وعامر بن فهيرة راعي الغنم لـ أبي بكر الصديق لما طعنه جبار بن سلمى قال: فزت ورب الكعبة.
فحدوث الشهادة لرجل هذا فضل من الله تبارك وتعالى، وقد يعطي الله تبارك وتعالى بشائر ونسمات الجنة لرجل قبل أن يقتل شهيداً، فـ أنس بن النضر في معركة أحد قال له سعد بن معاذ: إلى أين يا أبا عمرو؟! قال: واهاً لريح الجنة! أي: شم ريح الجنة قبل أن يدخل المعركة، ثم قال: إني لأشم رائحة الجنة من دون أحد، فهذا نصر، وأي نصر أشرف من أن يعطي الله تبارك وتعالى ريح الجنة لعبد قبل أن يشرع في أي عمل صالح! قال الله تبارك وتعالى عن الشهداء: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:١٦٩]، فقد تركوا الصعاليك في دار الدنيا الذين لم يصلوا ولم يصوموا ولم يزكوا، ويتأذى المؤمنين برؤية أجسامهم، فأبدلهم الله تبارك وتعالى بالقرب منه، ومن الملائكة، ومن العرش، فهذا نصر.
وقوله تعالى: {يُرْزَقُونَ} [آل عمران:١٦٩] أتى بالفعل المضارع ليدل على التجدد والاستمرار، فرزقهم في الجنة دائم، ورزق الدنيا ينقطع.
كان أحد الصالحين إذا مر بسوق فاكهة يقول: السلام ع