ويموت صلاح الدين الأيوبي بعد أن فتح سبعة وسبعين مدينة، وقد بلغ من شغفه أنه بعد أن فتح القدس بدءوا هم للرجوع إلى عكا، وحاصروا عكا من البحر، وظل صلاح الدين الأيوبي بعيداً عن مصر (٥٨ شهراً) وعيناه تذرفان الدموع يقول: يا للإسلام! يا لعكا، هل من رجال مؤمنين لعكا؟ وكان يشكو في ظهره من الدمامل الكثيرة لدرجة أنه كان لا يستطيع الأكل إلا نائماً، وبرغم هذا كما يقول قاضيه ابن شداد: يركب فرسه من الصباح إلى الظهر، ومن العصر إلى المغرب، فيقال له: إنك لا تستطيع أن تقعد وأن تأكل إلا نائماً فكيف تجلس على الفرس؟ فيقول: والله ما إن أرتقي صهوة جوادي حتى ينتهي الألم ثم يعود إليّ بعد أن أفارق جوادي.
ثم جاءته حمى فغاب عن وعيه تماماً ثلاثة أيام، يقول من كان معه: فقرأت عليه حتى وصلت إلى قول الله عز وجل: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}[الحشر:٢٢] قال: فأفاق من غيبته وهو يقول: صحيح -يعني هذا الكلام- يقول: فجعلت أقرأ حتى وصلت إلى قول الله عز وجل: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}[التوبة:١٢٩] فتبسم وخرجت روحه.
ورحل صلاح الدين خرج يوسف من سجن الدنيا إلى فضاء الحق عز وجل، وشيعته العيون الباكية، يقول القاضي ابن شداد: كنت أستقل أن رجلاً يقول لرجل: أفديك بنفسي ومالي، فلما مات صلاح الدين تمنيت لو افتديته بنفسي، وعلا البكاء والنحيب على الرجل الذي رد إلى المسلمين هيبتهم.