[صور من صبر السلف]
يقول العلماء وهو مذهب الإمام مالك: يجوز ترك التداوي لمن صبر على ذلك، وليس كل أحد يستطيع أن يصبر على ذلك، ونرى الواحد منا إذا أصابه قليل من الصداع يتذمر ويملأ الدنيا صراخاً وأنيناً.
ولذلك قالوا: الصبر الجميل هو الذي لا شكوى معه.
وهذا الإمام أحمد بن حنبل أنَّ في مرض موته، فقالوا له: إن طاوساً يقول: إن أنين المريض من الشكوى، فما أنَّ ابن حنبل حتى مات؛ على أن هناك فرقاً بين أنين وآخر.
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم فالأنين على نوعين: أنين شكوى وأنين فيه تفريج لألم الرجل، وذكر أنه دخلت على الإمام أحمد أخت بشر بن الحارث الحافي -أيام ما كانت النساء نساء والرجال رجال- وقالت له: يا إمام! أأنين المريض شكوى؟ قال: ما سئلت عن مثل هذه المسألة من قبل قط، أرجو ألا يكون كذلك.
وهذه المسألة الوحيدة التي لم يستطع الإمام أحمد أن يجاوب فيها وما عرفها الإمام أحمد إلا في مرض الموت، ثم قال لابنه بعد أن خرجت المرأة: انظر أي البيوت تدخل هذه المرأة قال: دخلت بيت بشر بن حارث الحافي -وكان أسمها مخة بنت الحارث - فقال: من بيتهم خرج الورع.
أما الشكوى إلى الله عز وجل فليست بشكوى؛ لأن نبي الله أيوب عليه السلام قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:٨٣]، ومع هذا قال الله عز وجل عنه، {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:٤٤].
وقال يعقوب عليه السلام أيضاً: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:٨٦]، فالشكوى إلى الله عز وجل لا تنافي الصبر الجميل، والصبر الجميل هو الصبر الذي لا شكوى معه، يقول الأحنف بن قيس سيد أهل المشرق: إني والله منذ أربعين سنة ما أبصر بعيني، وما تعلم بها زوجتي.
أي: طيلة هذه الأربعين سنة عين من عينيه لا يرى بها وزوجته لا تعرف ذلك.
وقال الإمام الحافظ إبراهيم الحربي: منذ عشر سنوات لا أبصر بإحدى عيني، ولا تعلم ذلك زوجتي، ومنذ ثلاثين سنة وأنا أفطر على رغيفين إن أتت بهما أمي أو أختي وإلا طويت جائعاً، ومنذ ثلاثين سنة وأنا أفطر على رغيف واحد إن أتت به زوجتي وأولادي وإلا صبرت، قال: والله ما كنا نعرف إلا الباذنجان المشوي، لم يكونوا يعرفون أساليب الترفه.
ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها).
أتى رجل سيدنا عبد الله بن عمر قال: إني رجل من فقراء المسلمين، قال: ألك بيت؟ قال: نعم، ألك زوجة؟ قال: نعم، قال: ولي خادم، قال: اذهب فأنت من الملوك، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوى من شدة الجوع وما يجد من الدقل ما يسد به جوفه، وكان يمر الهلال والهلال والهلال ولا يوقد في بيت رسول الله نار، وما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منخلاً قط، ولا رأى شاة صميطاً قط، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي.
أما هذه الأمة فقد أصبحت أمة متخمة فأمانيها مترفة وتفكيرها مترف وحياتها كلها ترف، فلابد أن يعاقبها الله عز وجل حتى تعود إلى دينها، والعود إلى الله عز وجل أحمد.
قال سعد بن أبي وقاص: كنت سابع سبعة عشنا أياماً مع رسول الله ليس لنا طعام إلا ورق الشجر، وكنا نضع كما تضع البعير ليس له خلط، وهنا نتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم، (والله ما الفقر أخشى عليكم)، وإنما يخشى علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنى.
ومما نشاهده اليوم أنه بمجرد ما تجد الأخ الملتزم المحافظ على الصلاة في المسجد حين يفتح الله عليه بعمل أو زواج تفوته صلاة الجماعة وقد لا يصلي في المساجد، فنسأل الله تبارك وتعالى لنا العون والثبات، ونعوذ بالله عز وجل من الحور بعد الكور.
يذكر عن أبي قلابة الجرمي -تلميذ عبد الله بن عباس - أنه ابتلي في دينه فصبر، وابتلي في جسمه فصبر، فقد أُريد توليته القضاء فهرب من الشام حتى لا يولى القضاء، فهذا العبد الصابر كان انبه يرعاه بعد أن أصيب في يديه ورجليه وثقل سمعه وبصره فلم يبق منه إلا لسانه وقليل من السمع وقليل من البصر، وكان ابنه يوضئه ويقوم على خدمته.
قال ابن حبان في الثقات: قال رجل: بينا أنا أمر في عريش مصر في الصحراء إذا بي أسمع صوت رجل يثني على الله عز وجل بمحامد ما سمعت مثلها من قبل في الثناء على الله عز وجل، فقلت: والله لأذهبن إلى تلك الخيمة، فإذا رجل قد ذهبت يداه ورجلاه وكف سمعه وبصره إلا القليل، قلت له: أي نعمة من نعم الله تحمده عليها؟ قال له: وما لي لا أدعو الله عز وجل، فوالله لو أمر الجبال فنسفتني أو أمر النيران فأحرقتني أو الأرض فابتلعتني ما كففت عن ذكره وشكره، قال: رجعت أتفكر على أي شيء وقد كف سمعه وبصره وكل شيء فيه قد ذهب، قال لي: إليك حاجة، قلت: مثلك تجاب حاجته على الفور، تكلم والله إن من أحب شيء إلي أن أسعى في حاجة مثلك، قال: أنت تعلم ما أنا فيه، وقد كان لي ابن يوضئني ويقيم على عنايتي وقد ذهب منذ أيام، فقلت: والله لأبحثن عنه، فمضيت غير بعيد فإذا بعظام هذا الشاب وقد افترسه السبع قلت: يا رب بأي وجه أعود إلى هذا الرجل، ثم تفكرت في نبي الله أيوب وما حل به فقلت: أدخل عليه من هذا المدخل، قلت: أنت أفضل أم نبي الله أيوب؟ وتعلم كيف ابتلاه الله عز وجل في جسده وكذا وكذا، قال: نعم، قلت: فكيف وجده الله عز وجل؟ قال: وجده صابراً، قلت: ولم يزل الله عز وجل يبتليه حتى أوحش منه أهله وأحبابه فكيف وجده الله عز وجل؟ قال: صابراً، قال: ماذا تريد؟ قلت: إن ابنك قد افترسه السبع، فرفع يده إلى السماء وقال: الحمد لله الذي لم يجعل ولداً من صلبي محله النار، ثم شهق الرجل فمات، لما مات من كان يعول هذا العبد الصالح قضى الله بموت هذا العبد الصالح.
وكم لله من لطف خفي يدق خفاه عن فهم الذكي قال: فانشغلت بأمره، كيف أواري هذا الرجل أو كيف أفعل وإنما أنا رجل واحد؟ وإذا بجماعة يأتون، فقالوا: اكشف لنا عن وجهه فلما كشفت عن وجهه قالوا: أبو قلابة الجرمي تلميذ عبد الله بن عباس؟! قال: فجعلوا يقبلونه في رأسه وفي رجليه، ويقولون: بأبي وأمي عين طالما غضت عن محارم الله، وبأبي وأمي قدم طالما سعى في طاعة الله عز وجل قال: فتعاونا عليه حتى دفناه، قال: فلما دفنته وجدته في رؤيا وكأنه في واحة خضراء، قلت له: ألست بصاحبي؟ قال: نعم أنا هو، إن عند الله عز وجل درجات في الجنة لا يبلغها العبد إلا بالصبر.
وهذا شقيق البلخي لما قابل إبراهيم بن أدهم قال له: ما تقول في الصبر والشكر؟ قال شقيق: إنا قوم نصبر عند البلاء، ونشكر في الرخاء، قال: هذا ما تفعله كلاب بلخ، قال: فما تقول أنت قال: إنا قوم نصبر عند الرخاء ونشكر في البلاء، أي: أنهم لا يتمنون البلاء ولكن حين يأتيهم الغنى يخافون أن يكون تحت هذا الغنى استدراج ومكر من الله عز وجل، ويؤيد هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولأحدهم كان أفرح بالبلاء إن نزل به من فرح أحدكم بالعطاء).
أما الصحابي الجليل عمران بن حصين فقد بلغ من شدة المرض أن ثقبوا له ثقباً في السرير ينزل منه الغائط، وهو صاحب الكرامات التي أوردها علماء أهل السنة التي منها أنه كانت تسلم عليه الملائكة.
وهذا الإمام العابد عروة بن الزبير أحد فقهاء المدينة السبعة، وهو ابن السيدة أسماء، ذهب إلى الوليد بن عبد الملك ومعه ابنه محمد فعانه، يعني: حسده ونظر إليه بنظرة عائنة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العين لتستنزل الحالق)، أي أن هناك أناساً أعينهم توقع الجبل وتهده -قال: فعانه فتناعس فسقط في إسطبل للدواب فداسته الدواب حتى قتلته، ووقعت الأكلة -السوسة- في رجله فقال له الأطباء: لابد من قطعها، قالوا له: نعطي لك دواء يغيب عقلك، فأبى وقال: إن ربي اختبرني؛ ليرى مدى صبري، فلما علا المنشار على العرق ما زاد على أن قال: حسبي، ثم غشي عليه، فلما أفاق من غشيته استنار وجهه وقال: خذها يا بني فكفنها وطيبها وادفنها في مقابر المسلمين والله ما مشيت بها إلى فاحشة قط، ثم لما عاد إلى المدينة وأتى أهل المدينة ليعزونه قال: لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً، ورفع يده إلى السماء وقال: إلهي إن سلبت فلطالما أعطيت وإن أخذت فلطالما أبقيت.
وهذه امرأة فتح الموصلي كانت من الصالحات، وقد أثنى عليها الإمام أحمد بن حنبل، ذكر عنها أنها لما قطع أصبعها ضحكت، فقال لها رجل: يقطع أصبعك فتضحكين، قالت: أحدثك على قدر عقلك: حلاوة أجرها أنستني مرارة قطعها.
ولذلك كان فتح الموصلي إذا رجع إلى بيته ولم يجد في البيت طعاماً ولا شراباً ولا موقداً ووجد السقف قد وكس على أهله يرفع يده إلى السماء ويقول: إلهي سلبتني.
أجعتني وأجعت أولادي وأعريتني وأعريت أولادي وقديماً كنت تفعل هذا بأنبيائك وأوليائك وعبادك الصالحين، فبأي خصلة من خصال الخير تقربت بها إليك يا مولاي فقبلتها مني حتى أداوم عليها.