[الحياء من الله سبحانه]
والحياء على أنواع أعلاه وأفضله الحياء من الله تبارك وتعالى؛ لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: يا رسول الله! إنا لنستحيي من الله حق الحياء، قال: ليس ذاكم، ولكن من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء).
فقوله: (فليحفظ الرأس وما وعى) أي: حتى الوساوس حتى خطرات النفس تحفظها لله عز وجل.
وقوله: (وما وعى) أي: العين والشم والسمع تحفظه لله تبارك وتعالى، وقال أهل العلم: أعلى من هذا درجة حديث السر الذي ينشأ في رأسك، قال ثور بن عبد الله التستري: أول خيانة الصديقين حديثهم مع أنفسهم، أي: من العمل السيء.
وقوله: (والبطن وما حوى) أي: ينظر من أين طعامه، ومن أين شرابه، فلا تكن الرجل الذي طعامه من حرام، وشرابه من حرام، ويطيل السفر أشعث أغبر، ثم يقول: اللهم ارزقني، لا يستحيي من الله تبارك وتعالى، فليحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى.
قال بشر بن الحارث الحافي: لو صفا لي درهم من حلال لاشتريت به دقيقاً، ولصنعت منه خبزاً، ثم دققته، ثم مررت به على المرضى أداويهم به.
قوله: (وليذكر الموت والبلى) فمن ذكر الموت هانت عليه شهواته، ومن تذكر عذاب القبر ومنكراً ونكيراً، هانت عليه شهواته.
قوله: (ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا) فاستحي من الله عز وجل أن يراك ماضياً إلى الدنيا بقلبك، والله عز وجل لم ينظر إليها، فقد قال النبي صلى الله علي وسلم: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).
الحياء من الله عز وجل يتولد من معرفة العبد لمقام الله عز وجل، ولذلك قال بلال بن سعيد: لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى كبرياء من واجهته بها.
وقال أحدهم: يا رب! أتراك ترحم من لم تكن عيناه للمعاصي، حتى علم ألا عين تراه غيرك.
فيا أخي المؤمن لم جعلت الله أهون الناظرين إليك؟ لم لا تستحيي من الله عز وجل؟ يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: (أوصيك أن تستحيي من الله عز وجل كما تستحيي من الرجل الصالح من قومك).
يا من يشير إليهم المتكلم وإليهم يتوجه المتظلم وشغلتم كلمي بكم وجوارحي وجوانحي أبداً تحن إليكم وإذا نظرت فلست أنظر غيركم وإذا سمعت فمنكم أو عنكم وإذا نطقت ففي صفات جمالكم وإذا سألت الكائنات فعنكم وإذا رويت فمن طهور شرابكم وبذكركم في خلوتي أترنم فعليك أن تجعل الله عز وجل أعظم ما تحن إليه.
كان عمرو بن عبد القيس ينام في البراري، وهو من دهاة العرب، فقالوا له: أما تخشى من السبع؟ قال: إني لأستحيي من الله عز وجل أن أخشى غيره وأنا في سلطانه.
مع أن هذا خوف جبلّي، والإنسان يخاف من الأسد، ولكن هذا كان خوفه من الله أعلى مما جعله لا يخاف من الأسد.
وسيدنا سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث حسنه الشيخ الألباني أنه وقع في أسر الروم، ففر من الأسر، فبينما هو على الطريق إذ لقيه الأسد فقرب منه وقال له: يا أبا الحارث! -وهذه كنية الأسد- أنا مولى رسول الله، وكان من أمري كذا وكذا وكذا، وجلس يحكي للأسد، قال: فبصبص الأسد -أي: حرك ذنبه يميناً ويساراً- حتى أوصله إلى مأمن الجيش.
وهذا عمرو بن عتبة بن فرقد الإمام التابعي العظيم كان والده قائداً لجيش من جيوش المسلمين، هذا الرجل الصالح ما كان يتحرك في صلاته، وفي ذات ليلة أتى السبع ففر الجيش وهو واقف في صلاته فما انصرف، فلما انصرف قال: ابحث عن رزقك في مكان آخر، فقالوا له: أما خفت السبع؟ قال: إني أستحيي من الله عز وجل أن أخاف غيره وأنا بين يديه.
وبنان الحمال دخل على أحمد بن طولون أمير مصر فأمره ونهاه ووعظه، وأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، فأتى بسبع وألقاه إلى بنان وهو في السجن، فإذا بالسبع يشم بناناً، فقالوا له: أين كان قلبك والأسد يشمك؟ قال: إني كنت أفكر في اختلاف العلماء في سؤر السباع.
فهؤلاء قوم لا تخطر لهم المعصية على بال؟ لأن الإنسان قد يترك المعصية خوفاً من الوعيد وخوفاً من النار، ومقام أعلى منه أن يقلع عن المعصية حياءً من الله عز وجل، فيعلم بقرب الله عز وجل فيقلع عن المعصية، وأعلى منه أن يقلع عن المعصية حباً لله عز وجل، وأن يعظم حياؤه من الله عز وجل أن يعصيه وهو يحبه.
يقول عمر بن الخطاب: (من قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه).
ويقول مقدم الجيوش الجراح بن عبد الله: تركت الذنوب أربعين سنة حياءً من الله عز وجل، ثم أدركني الورع.
يعني: ظللت أجاهد نفسي وأترك الذنوب حياءً من الله أربعين سنة، ثم بعد ذلك أدركني الورع.