ويحك يا نفس! تعرضين عن الآخرة وهي مقبلة عليك، وتقبلين على الدنيا وهي معرضة عنك، كم من مستقبل يوماً لا يستكمله! وكم من مؤمل لغد لا يبلغه! أنت تشاهدين ذلك في إخوانك وأقاربك وجيرانك فترين تحسرهم عند الموت ثم لا ترجعين عن جهالتك.
احذري أيتها النفس المسكينة! يوماً آلى الله فيه على نفسه ألا يترك عبداً أمره في الدنيا ونهاه حتى يسأله عن عمله دقيقه وجليله، سره وعلانيته، فانظري يا نفس بأي موقف تقفين بين يدي الله، وبأي لسان تجيبين، فأعدي للسؤال جواباً، وللجواب صواباً، اعملي بقية عمرك في أيام قصار لأيام طوال، وفي دار زوال لدار مقامة، وفي دار حزن ونصب لدار نعيم وخلود، اعملي قبل ألا تعملي، اخرجي من الدنيا اختياراً خروج الأحرار قبل أن تخرجي منها على الاضطرار، لا تفرحي بما يساعدك من زهرات الدنيا، فرب مسرور مغبون، ورب مغبون لا يشعر! فويل لمن له الويل ثم لا يشعر! يضحك ويفرح، ويلهو ويمرح، ويأكل ويشرب وقد حق له في كتاب الله أنه من وقود النار، فليكن نظرك يا نفس إلى الدنيا اعتباراً، وسعيك لها اضطراراً، وردك لها اختياراً، وطلبك للآخرة ابتداراً، ولا تكوني ممن يعجز عن شكر ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي، واعلمي يا نفس أنه ليس للدين عوض، ولا للإيمان بدل، ولا للجسد خلف، ومن كانت مطيته الليل والنهار فإنه يسار به وإن لم يسر، فاتعظي يا نفس بهذه الموعظة، واقبلي هذه النصيحة، فإن من أعرض عن الموعظة فقد رضي بالنار، وما أراك بها راضية، ولا لهذه الموعظة واعية، فإن كانت القساوة تمنعك عن قبول الموعظة فاستعيني عليها بدوام التهجد والقيام، فإن لم تزل فبالمواظبة على الصيام، فإن لم يزل فبقلة المخالطة والكلام، فإن لم تزل فبصلة الأرحام واللطف بالأيتام، فإن لم تزل فاعلمي أن الله قد طبع على قلبك وأقفل عليه، وأنه قد تراكمت ظلمة الذنوب على ظاهره وباطنه، فوطني نفسك على النار، وقد خلق الله الجنة وخلق لها أهلاً، وخلق النار وخلق لها أهلاً، وكل ميسر لما خلق له، فإن لم يبق فيك مجال للوعظ فاقنطي من نفسك، والقنوط كبيرة من الكبائر نعوذ بالله من ذلك، فلا سبيل لك إلى القنوط، ولا سبيل لك إلى الرجاء، مع انسداد طرق الخير عليك، إن ذلك اغتراراً وليس برجاء، انظري الآن هل يأخذك حزن على هذه المصيبة التي ابتليت بها؟! وهل تسمح عينك بدمعة رحمة منك على نفسك؟! فإن سمحت فمستقى الدمع من بحر الرحمة، فقد بقي فيك موضع للرجاء، فواظبي على النياحة والبكاء، واستعيني بأرحم الراحمين، واشتكي إلى أكرم الأكرمين، وأدمني الاستغاثة، ولا تملي طول الشكاية؛ لعله أن يرحم ضعفك، وأن يغيثك، فإن مصيبتك قد عظمت، وبليتك قد تفاقمت، وتماديك قد طال، وقد انقطعت منك الحيل، وراحت عنك العلل، فلا مذهب ولا مطلب، ولا مستغاث ولا مهرب، ولا ملجأ ولا منجى إلا إلى مولاك، فافزعي إليه بالتضرع، واخشعي في تضرعك على قدر عظم جهلك، وكثرة ذنوبك، فإنه يرحم المتضرع الذليل، ويغيث الطالب المتلهف، يجيب دعوة المضطر، وقد أصبحت إليه اليوم مضطرة، وإلى رحمته محتاجة، قد ضاقت بك السبل، وامتدت عليك الطرق، وانقطعت منك الحيل، ولم تنجح فيك العظات، ولم ينفع التوبيخ، فالمطلوب منه كريم، والمسئول جواد، والمستغاث به بر رءوف، والرحمة واسعة، والكرم فائض، والعفو شامل، قولي: يا أرحم الراحمين! يا رحمان يا رحيم! يا حليم يا عظيم يا كريم! أنا المذنب المصر، أنا الجريء الذي لا أقلع، أنا المتمادي الذي لا أستحي، هذا مقام المتضرع المسكين، والبائس الفقير، والضعيف الحقير، والهالك الغريق، فعجل إغاثتي وفرجي، وأرني آثار رحمتك، أذقني برد عفوك ومغفرتك، ارزقني من عظمتك يا أرحم الراحمين!