[ضرورة إعطاء الدعوة حقها من التضحية والفداء]
لا تسترخصوا الدعوة؛ فالدعوة غالية، فأعطوها كل أوقاتكم، ونهاية الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ومآلها إلى الجنة، ولا مستراح للعابد إلا تحت شجرة طوبى، ولقد أعطي النبيون ما أعطوا، وأعطي العلماء والدعاة ما أعطوا بالدعوة إلى الله، قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:١٣٢ - ١٣٣].
ورسول الله صلى الله عليه وسلم في سكرات الموت ما غفل عن الدعوة، تقول السيدة أم سلمة: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، حتى ما يفيض بها لسانه) تعني: حتى ثقل لسانه الطاهر المطهر عن أن ينطق بها، ونحن ما زلنا أحياء أقوياء أفلا نعطي الدعوة حقها؟ إن كان الله تبارك وتعالى يقول لنبيه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:٦] يعني: تكاد تموت من الغم على هذه الدعوة، وعدم استجابة الناس لها.
تقول السيدة عائشة للرسول صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هل مر عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: يوم العقبة، يوم عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم فلم أستفق إلا وأنا في قرن الثعالب).
يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم مشى في الطريق ولم يعرفه ولم يفق إلا في قرن الثعالب؛ وذلك بسبب همه في أمر الدعوة، فقد ينطلق الرجل مهموماً للبحث عن لقمة العيش إذا وجد أولاده يصرخون من الجوع فلا يفيق إلا في منتصف الطريق، فنريد من الرجل أن يمضي في طريقه وهو مهموم يحمل عبء الدعوة، فلا يفيق إلا بعد مدة، هذا حال أنبياء الله تبارك وتعالى.
قال: (فلم أستفق إلا وأنا في قرن الثعالب، وإذا بسحابة قد أظلتني فيها جبريل، فسلم علي ثم قال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعث معي ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فسلم ملك الجبال بالنبوة ثم قال: يا رسول الله إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، ولكني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً).
(وجاء أعرابي مشرك ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم تحت شجرة وسيفه معلق عليها فاخترط سيفه، ثم لوح بالسيف في وجه رسول الله فقال له: أتخافني؟ قال: لا، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله، فيبست يده وسقط السيف منها، ثم قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أتخافني؟ قال: يا محمد! كن خير آخذ، قال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: لا، ولكني لا أكون مع قوم يقاتلونك، ولا أقاتلك أبداً، فلما رجع قال: أيها الناس! جئتكم من عند خير الناس، جئتكم من عند محمد صلى الله عليه وسلم).
فالدعوة الهادئة تصل إلى قلوب الناس بسرعة، ودعوة الفطرة تصل إلى قلوب الناس بسرعة، ويتحمس لها الدعاة إلى الله تبارك وتعالى.
وهذا سيدنا أبو بكر رضي الله عنه عند أن بلغ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وثلاثين رجلاً أصر على رسول الله بالظهور بالدعوة، فقال: (إنا قليل يا أبا بكر) فما زال حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق رسول الله والصحابة كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر خطيباً بين الناس، فكان أول خطيب يدعو إلى الله تبارك وتعالى ورسول الله جالس يستمع.
قال: فقام المشركون إلى المسلمين وضربوهم ضرباً شديداً، وقام الفاسق عتبة بن ربيعة الكافر إلى أبي بكر بنعلين مخصوفتين يضرب بهما وجه أبي بكر، حتى ما يعرف أنفه من وجهه، وأقبلت بنو تيم فحملوا أبا بكر في ثوب وهم لا يشكون في موته، فأوصلوه إلى البيت ثم عادوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن مات أبو بكر قتلنا به عتبة بن ربيعة، ولم يفق أبو بكر إلا في آخر الليل، فكانت أول كلمة قالها: ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فنالوا منه بألسنتهم، ثم وكلوا به أمه أم الخير، فما زالت به، قال: والله! لا أذوق طعاماً حتى أنظر ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعث بها إلى أخت عمر بن الخطاب، ثم استند على أمه حتى وصل إلى رسول الله، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم رق له وبكى، وبكى المسلمون.
يقول سيدنا أنس: (ضرب المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى غشي عليه، فدفعهم عنه أبو بكر الصديق وقال لهم: أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله، فقالوا: من هذا؟ قالوا: أبو بكر المجنون، فتلهوا به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا رسول الله، ثم أتوا إلى أبي بكر رضي الله عنه فظلوا يضربونه حتى حمله قومه إلى دارهم، فجعل أبو بكر لا يمس شيئاً من غدائره إلا وسقط معها لحم الرأس، وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام!).
يقول سيدنا علي: والله لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون؛ هذا يكتم إيمانه، وهذا يعلن إيمانه.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد أوذيت في الله ما لم يؤذ أحد، وأخفت في الله ما لم يخف أحد، ولقد أتت علي ثلاثون ما بين يوم وليلة وما لي وبلال ما يأكله ذو كبد إلا ما يواريه إبط بلال)، ورسولكم صلى الله عليه وسلم شد الحجر على بطنه من شدة الجوع، ولله خزائن السماوات والأرض، وقتل عمه حمزة بن عبد المطلب ومثل بجثته، وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم، وشق رأسه، ولله جنود السماوات والأرض.
ويقول له الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:١ - ٥]، {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:٧].