[أبطال في عصر الخلافة الراشدة]
ولو رجعنا إلى بداية قيام الدولة الإسلامية لوجدنا أسامة بن زيد أسد الله وأسد رسوله، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم يذيق الصليبيين في شمال الجزيرة العربية الذل والهوان، ويوقع الرعب بهم وهم حلفاء الروم، وفي خلافة أبي بكر الصديق يضع فارس الإسلام وسيف الله وسيف رسوله أبو سليمان خالد بن الوليد في أول لقاء له مع صليبي العرب في معركة في الجبهة الفارسية تسمى: معركة أُلَّيس أو نهر الدم.
وقد كانت بينه وبين نصارى العرب من تغلب وبكر بن وائل وبني عجل وأهل الحيرة وقبيلة جذرة العربية، وعلى رأس هذا التجمع الصليبي عبد الأسود العجلي، وكانوا قد تحالفوا مع قوات الفرس وعلى رأسهم جابان ١٥٠٠٠٠ محارب، وكان سيف الإسلام خالد جيشه ١٨٠٠٠ مقاتل فقط أمام ١٥٠٠٠٠ مقاتل.
وبلغ من استهزائهم بالمسلمين أنهم مدوا البسط ليتناولوا الطعام فحذرهم جابان من الاستهانة بـ خالد وقال لهم: اتركوا الطعام واستعدوا للصدام، فعصوه فقال: إن القوم سيعاجلونكم قبل أن تطعموا الطعام وإنكم إنما هيأتموه لهم ليأكلوه بدلاً منكم.
ولما أتى خالد بجيشه اضطرهم إلى أن يتركوا طعامهم ودعا خالد للمبارزة، فخرج إليه مالك بن قيس، فقال له خالد: يا ابن الخبيثة ما جرأك علي من بينهم وليس فيك كفاء، يعني: أنت لست بكفء لأن تبارز خالد بن الوليد، ثم قتله واقتتل المسلمون ونصارى العرب والمجوس قتالاً شديداً، حتى إن خالداً رضي الله عنه نذر لله إن منحه الله أكتافهم أن يجري النهر بدمائهم، إذ قال: اللهم إن لك علي إن منحتنا أكتافهم ألا أستبقي منهم أحداً حتى أجري نهرهم بدمائهم، وبعد قتال عنيف وقتل المسلمون ما قتلوا نادى خالد لا تقتلوا أحداً ولكن اضطروهم إلى الأسر.
فاضطرتهم جيوش المسلمين ورجالهم إلى الأسر وقدموهم إلى حافة النهر ليضربوا رقابهم حتى يوفي خالد بنذره، وحبس ماء النهر فقال له القعقاع بن عمرو التميمي: والله لو أنك قتلت أهل الأرض جميعاً لم تجر النهر من دمائهم ولكن أرسل على الدماء قليلاً من الماء فيجري النهر وتبر بيمينك، وكان له ما أراد وجرى النهر أحمر قانياً بدمائهم.
وقال الصديق للناس في المدينة: يا معشر قريش عدا أسدكم على الأسد -يريد أن خالداً عدا على الفرس- فغلبه على خراذيله -يعني: غلبه على اللحم المطيب المعد له-، عجزت النساء أن ينشئن مثل خالد.
وقال خالد للعرب المسلمين: كلوا على بركة الله وباسم الله، فكان الطعام الذي قد أعد لأن يأكله الفرس طعاماً للمسلمين.
وفي معركة عين التمر اجتمع الصليبيون العرب كلهم حنقاً على خالد وقالوا للفرس: لا تقاتلوا خالداً نحن العرب أعلم بقتال خالد منكم فدعونا وخالداً، وجمعوا كل فرسانهم، ونظر خالد إلى الجيش وأراد أن ينهي المعركة دون أن يخسر رجلاً واحداً من رجاله، فقال لعشرة فرسان: احموا جنبي واكفوني ما عنده فإني حامل عليهم، ووسط ذهول الجيشين ينطلق عشرة من الرجال يقودهم خالد حتى دخل في وسط الجيش، ثم ظل خالد يصاول عقة بن أبي عقة ثم يقتلعه من فوق سرجه ويحتضنه، ويعود به على فرسه كالطفل الرضيع، ثم يذبحه ما بين الجيشين لتنتهي المعركة.
هذه ثاني وقعات خالد بالصليبيين.
وأما الثالثة: فكانت معركة الفرات في ١٥ ذي القعدة ١٢ هجرية، وكانت بين الفرس والروم والنصارى الموتورين وبين خالد بن الوليد لتقع المعركة بين ١٥٠٠٠٠ أمام ١٢٠٠٠ مقاتل، فعبروا نهر الفرات يريدون خالد بن الوليد، ولك أن تتصور الأعداء الفرس والروم الذين كانوا على عداء دائم ولأول مرة يجتمعون على قتال المسلمين، واليوم نسمع أن أسبانيا تستمر في قتل العرب، وألمانيا كذلك، وفرنسا كذلك، وبريطانيا كذلك، والفلبين تصرح أنها قبضت على الإرهابيين، فقامت الدنيا كلها على المسلمين مثلما قام الفرس والروم لأول مرة في التاريخ في معركة الفرات سنة ١٢ هجرية، وقتل سيف الله خالد بن الوليد منهم في هذه المعركة ١٠٠٠٠٠ في المعركة، وبعد المعركة وأثناء المطاردة ١٠٠٠٠٠، فلما سمع الخليفة أبو بكر بهذه المعارك، قال: لأذهبن وساوس الروم بسيف خالد، وأمر خالداً أن يترك العراق ليساعد المسلمين في جبهة الشام.
وكانت أول معارك سيف الله خالد أنه اضطر النصارى إلى دفع الجزية في بصرى، فكانت أول جزية يقبضها المسلمون على يد البطل خالد بن الوليد، وكان فتح دمشق بعد ذلك في ١٥ رجب سنة ١٤ هجرية، وقد وقفت خمسة جيوش إسلامية أمام أسوار دمشق: جيش القائد أبي عبيدة، وجيش شرحبيل بن حسنة، وجيش يزيد بن أبي سفيان، وجيش عمرو بن العاص، وجيش خالد بن الوليد وظلوا أربعة أشهر كاملة أمام أسوار دمشق والجيوش لا تستطيع أن تدخل هذه المدينة.
وكان خالد لا ينام ولا ينيم -يعني: لا ينام هو ولا يترك من أمامه ينامون خوفاً منه وذعراً منه- يعيش على تعبئة كاملة، عيونه ذكية ساهرة، فأخبرته: أن بطريرك الروم نسطار بن نسطور قائد الروم في دمشق ولد له مولود، وأنه سيوزع الخمر على حامية السور في مساء الأحد في ١٥ رجب سنة ١٤ هجرية.
وهنا أعد خالد بن الوليد قرباً نفخ فيها الهواء حتى امتلأت، وكأن الروم قد حفروا خندقاً عظيماً وأجروا فيه ماءً كثيراً، فما استطاع خالد وقواته أن يعبروها إلا سباحة على ظهر القرب، وأعد سلالم من حبال الليف منتهية بخطاطيف وحلق، ودعا مذعور بن عدي العجلي، والقعقاع بن عمرو التميمي فجعلا يلقيان بهذه الحبال فتعلق حبلان في أعلى السور وصعد عليها مذعور بن عدي العجلي، والقعقاع بن عمرو ومعهما بقية الأحبال حتى ثبتوها في أعلى السور، وتسلق خالد وقواده إلى أعلى السور، ثم قال لبقية الجنود: إن سمعتم تكبيراتنا من خلف الأسوار فانهدوا إليهم، وألقى خالد بنفسه مع التكبير من فوق الأسوار هو وقادة الجيش، فقتلوا من قتلوا من جنودهم المكلفين بحراسة الباب الشرقي لدمشق، ثم فتحوا الباب وظل خالد يحصد أرواح الروم حصداً حتى سلموا لـ أبي عبيدة.
وقالوا: أسرعوا بفتح الباب الغربي لـ أبي عبيدة حتى لا يحصدنا خالد حصداً.
والتقى جيش أبي عبيدة بجيش خالد بن الوليد عند سوق الزياتين بدمشق وتم الصلح.
وقد تلت هذه المعركة معركة اليرموك الفاصلة التي أنهت الوجود الصليبي من على أرض الشام، حتى قال هرقل وهو يودع دمشق: سلام عليك يا سورية سلام مودع لا يلقاك بعد هذا اليوم أبداً، وكان الروم قد أعدوا ٢٠٠٠٠٠ فارس على رأسهم ماهان أقوى فارس عندهم، أمام ٣٦٠٠٠ فارس فقط من المسلمين.
وخطب هرقل في الروم فقال: يا معشر الروم إن العرب قد ظهروا على سورية ولم يبقوا بها حتى تعاطوا أقاصي بلادكم، وهم لا يرضون بالأرض والمدائن والبر والشعير والذهب والفضة حتى يسبوا الأخوات والأمهات والبنات والأزواج، ويتخذوا الأحرار من أبناء الملوك عبيداً، فامنعوا حريمكم وسلطانكم أو ذروا مملكتكم.
فكتب أبو عبيدة إلى عمر رضي الله عنه فقال: قد جاء المسلمين ما لا قبل لهم به إلا أن يمدهم الله عز وجل بملائكة أو يأتيهم بغياث من قبله، فقال خالد لـ أبي عبيدة حينما اجتمع بقيادة القوات في الجابية: أرى والله! إن كنا نقالتهم بالكثرة والقوة فهم أكثر منا وأقوى، وما لنا بهم إذاً طاقة، وإن كنا نقالتهم بالله ولله فإن جماعتهم ولو كانوا أهل الأرض جميعاً لا تغني عنهم شيئاً، ثم قال لـ أبي عبيدة: تطيعني فيما آمرك به، قال: نعم.
قال: ولني ما وراء ذلك فإني أرجو الله عز وجل أن ينصرني عليهم، ثم تنازل له أبو عبيدة عن قيادة القوات، ورتب خالد صفوف جيشه، فجعل أبا عبيدة أمين هذه الأمة في القلب، وعلى الميمنة أعلم الأمة بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وعلى الميسرة قباث بن أشيم، وهاشم بن عتبة قاتل الأسود على الرجالة، وعلى الخيل خالد بن الوليد ومعه قيس بن هبيرة فارس الإسلام.
وخطب ماهان في جنوده قبل المعركة فقال: أنتم عدد الحصى والثرى والذر فلا يهولنكم أمر هؤلاء القوم؛ فإن عددهم قليل، وهم أهل الشقاء والبؤس، وجلهم حاسر وجائع، وأنتم من الملوك وأبناء الملوك أهل الحصون والقلاع والعدة والقوة والسلاح، فلا تبرحوا الميدان وفيكم عين تطرف حتى تهلكوهم أو تهلكوا أنتم.
ثم دعا خالداً للكلام معه، فقال: يا خالد! قد علمنا أنه ما أخرجكم من بلادكم إلا الجهد والجوع فهلموا إلى أن نعطي كل رجل منكم عشرة دنانير وكسوة وطعاماً وترجعون إلى بلادكم، فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها، فقال له خالد: إنه لم يخرجنا من بلادنا ما ذكرت غير أنا قوم نشرب الدماء، وإنه بلغنا أنه لا دم أطيب من دم الروم فجئنا لذلك.
ولخوف الروم من المسلمين جعلوا يسلسلون كل مائة فارس بسلسلة حتى إذا فر رجل يعود به التسعة والتسعون.
ويقف الجيشان ٢٠٠٠٠٠ أمام ٣٦٠٠٠، ولكن الستة والثلاثين ألفاً هؤلاء منهم ألف صحابي،