[التحذير من طول الأمل ونسيان الموت]
{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:٥٩]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
طول الأمل ضيع هذه الأمة، وطول الأمل ينسي الآخرة.
والناس يتغافلون عن ساعة الموت وينسون لحظة الموت، ويا لها من ساعة لا تشبهها ساعة، يندم فيها أهل التقى فكيف بأهل الإضاعة؟! يجتمع فيها مع شدة الموت حسرة الفوت.
يا إخوتاه! الموت أول وارد عليكم من ربكم فسيروا إلى ربكم سيراً جميلاً.
أمتكم آخر الأمم، ورسولكم آخر الرسل، وقد أسرع بخياركم فما تنتظرون إلا المعاينة.
إن الموت قد فضح الدنيا لكل ذي لب، حتى ما ودع لكل ذي عقل فيها فرحة، وإن أمراً يكون الموت آخره حقيق بأن يزهد الإنسان في أوله، وإن أمراً يكون الموت أوله حقيق بأن يخاف الإنسان من آخره، وكان ربيع بن خثيم يقول: لو غفل قلبي عن ذكر الموت ساعة واحدة لفسد قلبي! فكأن أهلك قد دعوك فلم تسمع وأنت محشرج الصدر وكأنهم قد قلبوك على ظهر السرير وأنت لا تدري وكأنهم قد زودوك بما يتزود الهلكى من العطر يا ليت شعري كيف أنت إذا غسلت بالكافور والسدر يا ليت شعري كيف أنت على ظهر السرير وأنت لا تدري يا ليت شعري كيف أنت إذا وضع الحساب صبيحة الحشر يوم من الأيام سيرحل كل منا إلى القبور، يوماً من الأيام سيرحل كل منا إلى القبور سيخرج أحدنا من بيته في رحلة لا يرجع منها أبداً، وقد يركب أحدنا مركباً لا ينزل منه أبداً.
عثمان بن عفان كان إذا مر بقبر يبكي حتى تبتل لحيته، فيقال له ويسأل عن ذلك، فيقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما رأيت منظراً إلا والقبر أفظع منه).
وقال صلى الله عليه وسلم: (القبر أول منزل من منازل الآخرة، فمن ينج منه فما بعده أهون منه، ومن لم ينج منه فما بعده أشد منه).
يوماً من الأيام ستحل ضيفاً على قوم كلامهم السكوت، أحباء لا يتزاورون، جيران لا يتآنسون.
يوماً من الأيام سيترادف أنينك وزفيرك.
يوماً من الأيام ستوضع مع أقوام موتى لا يتحركون، أي الجديدين -الليل والنهار- مر عليهم صار عليهم سرمداً إلى يوم يبعثون.
يوماً من الأيام سنشيع إلى قلب الضريح وإلى ردم الصفيح، إن كانت القبور تنسيك الدنيا بمنظرها الخارجي فكيف بداخلها.
يا قبر ما أسكنك وتحتك الدواهي!! إني سألت الترب ما فعلت بعد وجوه فيك منعفرة فقال لي صيرت ريحهم يؤذيك بعد مناظر عطرة وأكلت أجساداً منعمة كان النعيم يهزها نضرة لم تبق غير جماعة عريت بيض تلوح وأعظم نخرة وعمر بن عبد العزيز لما وقف على قبور آبائه من بني أمية قال: مر بعسكرهم إن كنت ماراً، وادعهم إن كنت داعياً، وانظر إلى تقارب منازلهم، سلهم عن العيون النظرة، التي كانوا بها إلى اللذات ينظرون، سلهم عن الجلود الرقيقة، وسلهم عما فعلت الديدان باللحمان تحت الأكفان، سالت الأحداق على الوجنات، وامتلأت الأفواه دماً وقيحاً وصديداً، واتخذ دواب الأرض وحشراتها في أبدانهم مقيلاً، يا مغسل الوالد والولد، ويا تاركه في التراب وحده قل لأبيك: بأي خديك بدأ البلى.
ليس الغريب غريب الشام واليمن إن الغريب غريب اللحد والكفن تمر ساعات أيامي بلا ندم ولا بكاء ولا خوف ولا حزن سفري بعيد وزادي لا يبلغني وقوتي ضعفت فالموت يطلبني ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني يا زلة كتبت في غفلة ذهبت يا حسرة بقيت في القلب تقتلني دع عنك عذلي يا من كان يعذلني لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني دعني أنوح على نفسي وأندبها وأقطع الدهر بالتذكار والحزن دعني أسح دموعاً لا انقطاع لها فهل عسى عبرة منها تخلصني كأنني بين جل الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أر الطب هذا اليوم ينفعني واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون واستخرج الروح مني في تغرغرها وصار ريقي مريراً حين غرغرني وقام من كان أولى الناس في عجل نحو المغسل يأتيني يغسلني وقال يا قوم نبغي غاسلاً حذقاً حراً أديباً أريباً عارفاً فطن