[وسائل الثبات على دين الله تبارك وتعالى]
والمعنى التاسع من معاني النصر: الثبات على دين الله تبارك وتعالى، والوسائل التي تحقق الثبات في هذه الآونة ما يلي: الوسيلة الأولى: وهي تدبر كتاب الله تبارك وتعالى وتلاوته، وأن تنعم العين بالنظر لكتاب الله تبارك وتعالى، وأن تجلي به البصر، وأن تجلي القلب بالتنزه في رياض القرآن الكريم، ورحم الله أقواماً كان القرآن نعيمهم وعنوانهم ونزهتهم وبستانهم وأنسهم وريحانهم كما قال العلماء.
يقول الله تبارك وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:٣٢].
فالقرآن أعظم وسيلة من وسائل الثبات في كل عصر حين تضطرب الأمور، وتختلط المفاهيم، فيرجع الصادقون إلى كتاب ربهم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:٤١ - ٤٢].
الوسيلة الثانية من وسائل الثبات على طريق الله تبارك وتعالى: الاستقامة والعمل الصالح، يقول الله تبارك وتعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:٢٧]، قال قتادة: أما في الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح.
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:٦٦]، فالمؤمن يجدد إيمانه دائماً بالعمل الصالح.
يقول الإمام ابن تيمية قبل وفاته: أنا إلى الآن أجدد إيماني، كان يقول: ما أسلمت إسلاماً جيداً إلى الآن.
وقال ابن دقيق العيد: والله ما تكلمت كلمة منذ أربعين سنة ولا فعلت فعلة إلا وأعددت لها جواباً بين يدي الله تبارك وتعالى.
والـ ربيع بن خثيم منذ عشرين سنة ما تكلم بكلمة واحدة في أمر من أمور الدنيا، حتى إن ابنته وهي صبية قالت: يا أبتي! أأذهب ألعب؟ فقال لها: اذهبي يا بنيتي فاصنعي خيراً، ولما سئل عن ذلك قال: والله لا يكتب في صحيفة أعمالي أني أمرت باللعب.
فكيف وحياتنا كلها لعب؟ يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: (لست من دد وليس الدد مني).
فالمثابرة على العمل الصالح ثبات على دين الله تبارك وتعالى، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ثابر على اثنتي عشرة ركعة وجبت له الجنة).
ويقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، ومن أحبه الله تبارك وتعالى ثبته على دينه.
الوسيلة الثالثة: تدبر قصص الأنبياء والسابقين والتأسي بهم، يقول الله تبارك وتعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:١٢٠]، فالإنسان حين ينظر إلى جبروت الظالم ينظر إلى القصص الغابرة في التاريخ: في تاريخ الأنبياء وفي تاريخ الدعوات، كقصة سحرة فرعون الذين كانوا في أول النهار يقولون: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:٤١ - ٤٢]، ويقولون: وعزة فرعون أننا سنغلب، وفي آخر النهار سجدوا لرب هارون وموسى فـ {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:٧٠]، {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الشعراء:٤٩]، وكأن الإيمان يحتاج إلى إذن حين يدخل القلوب!! الإيمان لا يحتاج إلى إذن فإذا وصلت بشاشته القلوب استجاب القلب، {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:٧١]، فلما سجدوا لاحت لهم قصور الجنة، {قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الشعراء:٥٠]، وقالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:٧٢ - ٧٣].
يا دامي العينين والكفين إن الليل زائل لا غرفة التعذيب باقية ولا برد السلاسل وحبوب سنبلة تجف فتملأ الوادي سنابل.
وحين يتدبر الإنسان قصة سيدنا موسى {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:٦١ - ٦٢]، فمن فقد الله فماذا وجد؟ ومن وجد الله فماذا فقد؟ ومن كان مع الله فأي شيء عليه؟ الوسيلة الرابعة: الدعاء بتثبيت القلوب: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:٨]، {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [البقرة:٢٥٠].
ومن مواضع استجابة الدعاء: الدعاء في جوف الليل الآخر، والدعاء عند السجود، فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
فالمؤمن يدعو الله تبارك وتعالى أن يثبته على الإسلام حتى يلقاه عليه، ويدعو الله تبارك وتعالى لنفسه ولإخوانه وللمسلمين أن يفرج الله تبارك وتعالى عنهم الكربات.
الوسيلة الخامسة: ذكر الله تبارك وتعالى، فهو الباب الموصل للولاية العظمى، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:٤٥]، وذكر الله تبارك وتعالى مطلوب وخاصة في مواطن الفزع، وعند اشتداد الأمر، ومن ذكر الله تبارك وتعالى في كل حين غرس الله غرساً في الجنة، وبنى له قصوراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد! اقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وغراسها سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) فهذا يغرس لك الغرس وأنت في دار الدنيا.
والذي ثبت سيدنا يوسف من الوقوع في المعصية هو الذكر: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:٢٣]، فقد جعله يثبت ويقاوم هذه الفتنة، فالذكر عامل وعنصر من عناصر التثبيت.
الوسيلة السادسة: الحرص على العقيدة السليمة؛ عقيدة أهل السنة والجماعة: وهم الصحابة والتابعون وتابع التابعين من سلف هذه الأمة.
قال علماء السلف: أكثر الناس شكاً عن الموت أهل الكلام.
وقال سيدنا عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل.
فمن كان على اعتقاد سليم ثبته الله تبارك وتعالى.
قال هرقل لـ أبي سفيان قبل إسلامه: هل يرتد أحد منهم سخطه لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، قال: وكذا الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
الوسيلة السابعة: التربية الإيمانية العلمية الواعية المتدرجة وليست الحماسة الثائرة، فالتربية الإيمانية تحيي القلب والضمير بالخوف والرجاء والمحبة والتوكل على الله تبارك وتعالى، وتغذيه بعناصر تبعده عن الجفاف، وهذه العناصر تستمد من الكتاب والسنة، وهي: الخوف والرجاء والمحبة لله تبارك وتعالى والشوق إلى الله تبارك وتعالى.
فالتربية العلمية القائمة على الدليل الصحيح تكون بعيداً عن التقليد الأعمى، والتربية الواعية التي تفهم منطلق الواقع وتعيشه لا تعيش في غيبوبة عن الواقع، وإنما تعيش بآلام المسلمين، وتعرف أعداء المسلمين ومصائب المسلمين، وتفهم خطط الكافرين، قال الله تبارك وتعالى: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:٥٥]، فلابد أن يعلم المؤمن الواقع الذي تعيشه هذه الأمة.
والتربية الإيمانية متدرجة لا تخضع للحماسة الزائفة، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:٢٤٦]، فانتكس حماسهم الزائف عندما فرض عليهم القتال، ثم لما ولي عليهم طالوت ملكاً {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:٢٤٧] أي: فضله الله تعالى عليهم في العلم والجسم، ثم لما عبر بهم النهر: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة:٢٤٩]، {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة:٢٤٩]، أما البقية الباقية لما جاء وقت القتال: {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا ال