للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مقارنة بين قلوب وهموم الصالحين والعصاة]

الحمد لله وحده لا شريك له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

ثم أما بعد: وانظر إلى قلب الصالح وإلى قلب العاصي، فالصالح قلبه سليم، سلم مما سوى الله عز وجل، وجعل همه في الله عز وجل، فهو مخبت منيب، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:١٧].

وعلى الطرف الآخر قلب قاس.

وفي القلب الأول يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن لله آنية في الأرض، وآنية ربكم في أرضه قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس ذو القلب المخموم.

قالوا: وما القلب المخموم يا رسول الله؟! قال: الذي لا غل فيه ولا حقد ولا حسد).

وقلب العاصي فيه أغلال وأنكال، وعليه الران، فهو قلب مسود قاس ممسوخ، ومن الناس من يمسخ قلبه فيصبح كالكلب، ومنهم من يمسخ قلبه فيصبح كالخنزير فيترك الطيبات، وتكون العقوبة على القلب: الران والأغلال والصد والشد والقفل والصمم والبكم والغشاوة وتقليب الأفئدة وإنكار القلب وجعله غافلاً، وكل هذه عقوبات على القلب.

فهنا بساتين تزهر، وهناك نتن يفوح وقلوب دنسة، لم يرد الله تبارك وتعالى أن يطهرها.

وانظر إلى هم الصالح وهم العاصي، يقول النبي صلى الله عليه وسلم (من جعل الهم هماً واحداً كفاه الله سائر همومه).

وإي والله! من جعل الهم هماً واحداً فجعله في ذات الله عز وجل كفاه الله سائر همومه.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له منها).

تجده يقول لزوجته: نحن اليوم نريد أن نضع جدولاً لمدة ثلاثة أشهر ننضم فيها جدولنا في الصيف ونذهب بالأولاد إلى كذا وكذا، وهذا هو أمره، قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:٧].

وقال: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم:٣٠]، هذا هو الشيء الوحيد الذي يعرفه ويريده، فنهاره مهتم بالدوري، يذهب لمشاهدة مباراة كذا وكذا، ولا هم له إلا هذا، ولا تمر الآخرة على باله مطلقاً في لحظة من نهار.

والصالح رجل همه أن يسارع في الاستيقاظ في السحر؛ حتى يفيق قلبه من غفلة الدنيا، ولو شممت نسيم الأسحار لاستفاق منك قلبك المخمور، ورياح الأسحار لا يشمها مزكوم الغفلة؛ لأنه عند السحر لابد أن ينام.

وفي الأثر: (يا جبريل! أنم هذا وأقم هذا).

كما قال العلامة ابن رجب الحنبلي.

همه أول ما يستيقظ أن يكون أول داخل إلى المسجد في صلاة الغداة -أي: صلاة الفجر- لأنه يعرف أنه أول من يخرج من بيته لصلاة الغداة يرافقه ملك برايته حتى يدخل معه المسجد، ثم يعود معه إلى بيته، فأراد أن ينعم بصحبة الملك، فهو قد جعل همه أن يسمع أذان المؤذن في صلاة الفجر وهو في المسجد، فإذا ما صلى الفجر في الصف الأول جلس في مصلاه إلى الشروق، ثم بعد ذلك يصلي ركعتين، فتكتب له أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة.

يقول سعيد بن المسيب: منذ أربعين سنة ما فاتتني تكبيرة الإحرام بالمسجد.

ويقول إبراهيم التيمي: إذا رأيت الرجل يتهاون بالتكبيرة الأولى فانفض يديك منه؛ فإنه لا يفلح.

فإذا أشرق الضحى تجده واقفاً صافاً قدمه بين يدي مولاه ليصلي صلاة الضحى، والقاسم بن محمد قال: ذهبت إلى بيت عمتي عائشة بعد صلاة الصبح فإذا هي قائمة تصلي الضحى وتقرأ قول الله عز وجل: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:٢٧ - ٢٨].

قال: فعدت إلى منزلي، ثم دخلت السوق واشتريت حاجتي، ثم أتيت، فإذا هي قائمة تردد نفس الآية: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:٢٧].

والصالح إذا أشرق عليه الصبح يقول: يا نفس! هذا يومك الذي فيه تموتين، أنت ستموتين هذا اليوم ولن يأتي المغرب عليك، فيظل في طاعة إلى الغروب، يسابق خروج الروح.

ويبدأ نهاره كما بدأ أبو هريرة بالتسبيح اثنا عشر ألف تسبيحة، ويقول: إنما أسبح بقدر ذنبي.

والصالح لا يترك زوجته تذهب أين شاءت، فتركب الأوتوبيس، مبهذل حالها على سلم الأوتوبيس فما هي عيشة الهم هذه؟ فبدلاً من أن تجلس في بيتها تسبح أو تسمع قراءة الشيخ خالد القحطاني أو الشيخ ابن باز أو ابن عثيمين، فتجلس تسبح وتنظف بيتها وتطعم أولادها، وليس لها هم إلا ذلك، وعندما تأتي تأكل مع زوجها تذكره بالآخرة، كما كانت تفعل رابعة بنت إسماعيل الشامية، كانت إذا جلست مع زوجها تلميذ الإمام أحمد تذكره بالآخرة، وأن الجنة فيها كذا، والنار فيها كذا، والعرض على الله كذا، فيقول لها: دعينا لا تنغصي علينا عيشنا، يعني: اللقمة التي نأكلها دعيها تنزل ولا تنغصيها علينا، فتقول له: لست أنا وأنت ممن ينغص عليه العيش بذكر الآخرة.

وكان أحدهم في وقت النهار لو رجع من الحرب والجهاد في سبيل الله يجمع غبار المعارك في صرة؛ حتى يجعل من هذه الصرة لبنة توضع معه في القبر.