[تفسير قوله تعالى: (ووالد وما ولد)]
وقوله تعالى: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد:٣] (ووالد) فيه ثلاثة أقوال: القول الأول: هو آدم أبو البشرية، كما أقسم الله بأم القرى مكة -أي: أصل القرى- يقسم بأصل البشرية آدم.
القول الثاني: إبراهيم عليه السلام.
القول الثالث: وهو قول سعيد بن جبير: هو الرجل الذي يولد له.
قوله: (وما ولد) أيضاً فيها ثلاثة أقوال: القول الأول: الرجل العقيم الذي لا ينجب.
القول الثاني: أن (ما) هنا مصدرية، أي: ووالد وولادته، فيقسم الله تبارك وتعالى بعملية خلق الإنسان، بإخراج الولد من صلب الذكر ورحم الأنثى، وبعملية خروج الجنين كما تخرج البذرة في الأرض السوداء، ثم تنفلق ويخرج منها نبات طيب أخضر، ثم بعد ذلك تخرج الثمار والزهور، فعملية خلق الإنسان أشد تعقيداً.
والله تبارك وتعالى يوكل ملكاً بتصوير خلق الإنسان، فيجعل له العنينين والأذنين بأمر الله تبارك وتعالى، ويحدد له الرزق والعمر والشقاء أو السعادة، وكل هذا يتم وهو لا يعلم شيئاً.
والله تعالى أنعم علينا بنعمة الإسلام إذ أخرجنا من بطون أمهاتنا مسلمين، فإن رجاء الجارودي ظل يبحث عن الإسلام في مدن فرنسا ستين سنة من عمره، ولو كانت العملية هكذا كان رجاء الجارودي من أوائل الناس الذين أسلموا، ولكن هذه نعمة من الله تبارك وتعالى علينا بها ما عقدنا عليها من خيل ولا ركاب، وإنما ساق إليك هذه النعمة وجعلك من أهل قبضة اليمين.
ولو سجدنا لله على إبر محمي من الآن إلى يوم لقياه ما كافأناه بهذه النعمة.
القول الثالث: أن (ما) هنا موصولة، والمعنى: ووالد والذي ولد، أو: ووالد ومن ولد، مثل قوله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل:٣] يعني: والذي خلق الذكر والأنثى، وقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء:٣] أي: من طاب لكم من النساء، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران:٣٦] يعني: والله أعلم بمن وضعت، ولكنها وإن كانت تستخدم لغير العاقل فإنها تستخدم هنا للعاقل، وحين تستخدم للعاقل تدل على صفة، أي: ووالد والعظيم الذي ولده، مثل قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:٥] أي: والسماء والخالق العظيم الذي بناها، {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:٧] ونفس والخالق العظيم الذي سواها.
والرسول صلى الله عليه وسلم لم يبق له أولاد ذكور، فالله يقسم بآدم ويقسم بأفضل أبنائه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يقسم بإبراهيم ويقسم بأفضل أبنائه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:٦٨].
وهذا الكلام فيه تعريض لأهل مكة المشركين حين يقسم الله به وهم يريدون قتله، فيقسم به مرتين: بإقامته، ويقسم به في المرة الثانية: ((وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ)).
وقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:٤]، الكبد: المشقة والتعب، ومنه يسمى الكبد كبداً لأنه يحوي دماً متخثراً ومتجمداً.
فالمسلم في مشقة، ولا راحة له إلا بعد أن يجتاز جسر جهنم ويدخل الجنة، فلا مستراح للعابد إلا تحت شجرة طوبى في الجنة.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:٦].
فالإنسان يعيش في كبد من أول ما تقطع سرته، فلو أن رجلاً كبيراً جرح جرحاً بسيطاً فإنه يعاني معاناة شديدة، ولا يسكن الألم إلا بفلين أو بيلوفين أو مسكن كذا وكذا، فما ظنك بالطفل الصغير يفصل شيئاً من جسده وهو السرة؟! ثم بعد ذلك يلبس هذه الملابس واللفافات التي توضع على الطفل الصغير، ولو أن شخصاً لبس ثوباً ضيقاً فقد لا يتحمل، فما ظنك بالطفل الرضيع وهو يشد ويربط بتلك الملابس!! ثم يعالج بعد ذلك الرضاع الذي لو فاته لجاع، ثم يعالج بعد ذلك الفطام الذي هو أشد من الوسام، ثم يعالج بعد ذلك نبت أسنانه، ثم يعالج بعد ذلك الوقوف بخطى ثابتة، والمشي بخطى ثابتة، وهكذا، ثم بعد ذلك يعالج بناء الدور وتشييد القصور، ثم بعد ذلك يعالج مشاكل الزواج وأتعابه، ثم بعد ذلك يعالج أمر الزوجات والأولاد، بعد ذلك يعاني من المواصلات وهمّ المواصلات، ثم بعد ذلك يعاني من المرض والأوجاع، ثم بعد ذلك يعاني سكرات الموت، ثم بعد ذلك يعاني من رؤية ملك الموت، ورؤية الملكين وعذاب القبر، ثم بعد ذلك يعالج ويكابد الوقوف أمام الله تبارك وتعالى في ساحة العرض على الله تبارك وتعالى، ثم بعد ذلك الجنة أو النار.
فهذا يكدح بعضلاته، وذاك يكدح بروحه، وهذا يكدح من أجل بناء القصور، وهذا يكدح من أجل الكساء، وكل يكدح، وكل يحمل همه على ظهره ويمضي، ولكن هناك فرق بين من يكدح في سبيل نزوة وشهوة ومن يكدح لعقيدة ودعوة، وهناك فرق بين الرجل الذي يعيش لشهواته والرجل الذي يعيش لدينه، إن من يعيش لنفسه يعيش صغيراً ويموت صغيراً، وأما الذي يعيش إرضاء لربه فما له وللمال وللدعة؟! وما له وللفراش الوثير؟! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (انتهى عهد النوم يا خديجة)، قم للأمر الكبير الذي ينتظرك، قم لأمر الدعوة لله تبارك وتعالى.
لإسلامي ولو حتى إلى الجدران شدوني لإسلامي ولو حتى إلى النيران دسوني لإسلامي لإسلامي ولو في السلك باعوني وثارات لإسلامي تعايشني تغذيني تبث النور في روحي وتنبض في شراييني وإسلامي له عرقي له نبضي وسكوني أنا ماذا أقول أنا بلا ربي بلا ديني أنا ماذا أقول أنا أجيبوني أجيبوني هناك من يعاني كدح الدنيا ثم ينتهي به الأمر إلى كدح الآخرة وإلى النار، وهناك من يعاني كدح الدنيا من أجل دينه وينتهي به إلى ظل الله تبارك وتعالى، وإلى جوار الله تبارك وتعالى حيث الأمن، وحيث لا خوف ولا حزن.
والذي يكدح في الدنيا فيتعب، ويكدح في الآخرة بمعالجة السلاسل والأغلال والنيران وسرابيل القطران، هذا جمع هماً إلى هم، فمثله كمن يغوص في الأوحال والطين مع أكل الديدان والحشرات.
إذا أنت غمت عليك السماء وضلت حياتك عن صبحها فعش دودة في ظلام القبور تغوص وتسبح في قيحها ومن تعب في سبيل الدعوة فإنه يحس بأنس وراحة، وطمأنينة بال، ورضا عن نفسه قال أحدهم: والله! إنها لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها القلب طرباً.
ويقول الآخر: إن كان أهل الجنة في مثل هذا العيش إنهم لفي عيش طيب.
يعني: لو أن حياة أهل الجنة مثل هذه الحياة فإن أهل الجنة في سعادة.
ويقول القائل: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من سعادة لجالدونا عليها بالسيوف.
ويقول أحدهم: العيش الهني العيش مع الله تبارك وتعالى؛ أن يرضى الله تبارك وتعالى عنك.
ومن اشتاق إلى الله اشتاقت إليه جميع الأشياء، ومن قرت عينه بالله قرت به كل عين.