للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[توبيخ النفس ومعاتبتها بترك الدنيا]

ويحك يا نفس لا ينبغي أن تغرك الحياة الدنيا، ولا يغرنك بالله الغرور، فانظري لنفسك، فما أمرك بمهم لغيرك، لا تضيع أوقاتك فالأنفاس معدودة، فكلما ذهب نفس فقد ذهب بعضك، فاغتنمي الصحة قبل السقم، والفراغ قبل الشغل، والغنى قبل الفقر، والحياة قبل الموت، واستعدي للآخرة على قدر بقائك فيها.

يا نفس! أما تستعدين للشتاء بقدر طول مدته تجمعين له القوت والكسوة والحطب وجميع الأسباب، ولا تتكلين في ذلك على فضل الله حتى يدفع عنك البرد في غير جبة وحطب وغير ذلك فإنه قادر على ذلك؟! أفتظنين أيتها النفس أن زمهرير جهنم أخف برداً وأقصر مدة من زمهرير الشتاء، أم تظنين أن ذلك دون هذا؟ كلا، لا مقارنة في الشدة والبرودة بينهما، أفتظنين أن العبد ينجو منها بغير سعي؟ هيهات! كما لا يندفع برد الشتاء إلا بالحطب والنار وسائر الأسباب فلا يندفع حر النار وبردها إلا بحسن التوحيد، وخندق الطاعات، وإنما كرم الله في أن عرفك طريق التحصن، ويسر لك أسبابه، لا في أن يندفع عنك العذاب دون حصنه، كما أن كرم الله عز وجل في دفع برد الشتاء أن خلق النار وهداك لطريق استخراجها.

ويحك يا نفس! انزعي عن جهلك، وقيسي آخرتك بدنياك: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:٢٨]، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:١٠٤]، {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:٢٩] وسنة الله لا تجدين لها تبديلاً، ولا تحويلاً.

ويحك يا نفس! ما أراك إلا ألفت الدنيا وأنست بها، فعسر عليك مفارقتها، وأنت مقبلة على مقاربتها، تؤكدين في نفسك مودتها، فاحسبي أنك غافلة عن عقاب الله وثوابه، وعن أهوال القيامة وأحوالها، فما أنت مؤمنة بالموت المفرق بينك وبين محابك، أفترين أن من يدخل دار ملك ليخرج من الجانب الآخر فرد بصره إلى وجه مليح يعلم أنه يستغرق ذلك قلبه؟! ثم يضطر لا محالة إلى مفارقته أهو معدود من العقلاء أم من الحمقى؟ أما تعلمين أن الدنيا دار لملك الملوك وما لك فيها إلا مجاز، وكل ما فيها لا يصحب المجتازين بها بعد الموت، ولذلك قال سيد البشر صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال لي: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه)؟! ويحك يا نفس! أتعلمين أن كل من يلتفت إلى ملاذ الدنيا ويأنس بها -مع أن الموت من ورائه- إنما يستكثر من الحسرة عند المفارقة، وإنما يتزود من السم المهلك وهو لا يدري؟! أو ما تنظرين إلى الذين مضوا كيف بنوا وعلوا، ثم ذهبوا وخلوا؟! وكيف أورث الله أرضهم وديارهم أعداءهم؟ أما ترينهم كيف يجمعون ما لا يأكلون، ويبنون ما لا يسكنون، ويؤملون ما لا يدركون، يبني كل واحد قصراً مرفوعاً إلى جهة السماء، ومقره قبر محفور تحت الأرض؟ فهل في الدنيا حمق وانتكاس أعظم من هذا؟! يعمر الواحد دنياه وهو مرتحل عنها يقيناً، ويخرب آخرته وهو صائر إليها قطعاً! أما تستحين يا نفس! من مساعدة هؤلاء الحمقى على حماقتهم؟! احسبي أنك لست ذات بصيرة تهتدي إلى هذه الأمور، وإنما تميلين بالطبع إلى التشبه، فقيسي عقل الأنبياء والعلماء والحكماء بعقل هؤلاء المنكبين على الدنيا، واقتدي من الفريقين بمن هو أعقل عندك إن كنت تعتقدين في نفسك العقل والذكاء.

يا نفس! ما أعجب أمرك وأشد جهلك وأظهر طغيانك! عجباً لك كيف تعمين عن هذه الأمور الواضحة الجليلة، ولعلك يا نفس أسكرك حب الجاه، وأدهشك عن فهمها، أو ما تتفكرين أن الجاه لا معنى له إلا ميل القلوب من بعض الناس إليك؟! فاحسبي أن كل من على وجه الأرض سجد لك وأطاعك، أفما تعرفين أنه بعد خمسين سنة لا تبقين أنت ولا أحد ممن على وجه الأرض ممن عبدك وسجد لك؟! وسيأتي زمان لا يبقى ذكرك، ولا ذكر من ذكرك كما أتى على الملوك الذين كانوا من قبلك: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم:٩٨].

كيف تبيعين يا نفس! ما يبقى أبد الآباد بما لا يبقى أكثر من خمسين سنة إن بقي؟! هذا إن كنت ملكاً من ملوك الأرض سلم لك الشرق والغرب، حتى أذعنت لك الرقاب، وانتظمت لك الأسباب، كيف ويأبى إدبارك وشقاوتك أن يسلم لك أمر محلتك بل أمر دارك فضلاً عن محلتك! فإن كنت يا نفس لا تتركين الدنيا رغبة في الآخرة لجهلك وعمى بصيرتك فمالك لا تتركينها ترفعاً عن خسة شركائها، وتنزهاً عن كثرة عنائها، وتوقياً من سرعة فنائها؟! ما لك لا تزهدين في قليلها بعد أن زهد فيك كثيرها؟ وما لك تفرحين بدنيا إن ساعدتك فلا تخلو بلدك من جماعة من اليهود والمجوس يسبقونك بها، ويزيدون عليك في نعيمها وزينتها؟! فأف لدنيا يسبقك بها هؤلاء الأخساء! ما أجهلك، وأخس همتك، وأسقط رأيك! إذ رغبت في أن تكوني في زمرة المقربين من النبيين والصديقين في جوار رب العالمين أبد الآبادين، لتكوني في صف النعال من جملة الحمقى الجاهلين أياماً قلائل، فيا حسرة عليك إن خسرت الدنيا والدين فبادري! ويحك يا نفس! قد أشرفت على الهلاك واقترب الموت، وورد النذير! فمن ذا يصلي عنك بعد الموت؟! من ذا يصوم عنك بعد الموت؟! من ذا يترضى عنك ربك بعد الموت؟! من يتقرب إلى الله بالأعمال بعدك؟ ويحك يا نفس! ما لك إلا أيام معدودة هي بضاعتك إن اتجرت فيها، وقد ضيعت أكثرها فلو بكيت بقية عمرك على ما ضيعت منها لكنت مقصرة في حق نفسك، فكيف إذا ضيعت البقية وأصررت على عادتك؟ أما تعلمين يا نفس! أن الموت موعدك، والقبر بيتك، والتراب فراشك، والدود أنيسك، والفزع الأكبر بين يديك؟ أما علمت يا نفس! أن أكثر الموتى عندك على باب البلد ينتظرونك وقد آلوا على أنفسهم كلهم بالأيمان الغليظة أنهم لا يبرحون من مكانهم ما لم يأخذوك معهم؟ أما تعلمين يا نفس أنهم يتمنون الرجعة إلى الدنيا يوماً ليشتغلوا بتدارك ما فرط منهم وأنت في أمنيتهم ويوم من عمرك لو بيع منهم بالدنيا بحذافيرها لاشتروه لو قدروا عليه، وأنت تضيعين أيامك في الغفلة والبطالة: سألت الدار تخبرني عن الأحباب ما فعلوا فقالت لي أقام القوم أياماً وقد رحلوا فقلت أين أطلبهم وأي منازل نزلوا فقالت في القبور ثووا رهاناً بالذي فعلوا وقال آخر: يا أيها الناس سيروا إن غايتكم أن تصبحوا يوماً لا تسيروا حثوا المطايا وأرخوا من أزمتها قبل الممات وقضوا ما تقضونا كنا أناساً كما كنتم فغيرنا دار فسوف كما كنا تكونونا وقال آخر: فكأن أهلك قد دعوك فلم تسمع وأنت محشرج الصدر وكأنهم قد قلبوك على ظهر السرير وأنت لا تدري وكأنهم قد زودوك بما يتزود الهلكى من العطر يا ليت شعري كيف أنت إذا غسلت بالكافور والسدر يا ليت شعري كيف أنت على نبش الضريح وظلمة القبر ويحك يا نفس أما تستحين؟ تزينين ظاهرك للخلق، وتبارزين الله في السر بالعظائم؟! أفتستحين من الخلق ولا تستحيين من الخالق؟! ويحك أهو أهون الناظرين عليك؟! أتأمرين الناس بالخير وأنت متلطخة بالرذائل، تدعين إلى الله وأنت عنه فارة، تذكرين بالله وأنت له ناسية! أما تعلمين يا نفس! أن المذنب أنتن من العذرة، وأن العذرة لا تطهر غيرها؟ فلم تطمعين في تطهير غيرك وأنت غير طيبة في نفسك؟! ويحك يا نفس لو عرفت نفسك حق معرفتها لظننت أن الناس ما يصيبهم بلاء إلا بشؤمك، ويحك يا نفس قد جعلت نفسك حماراً لإبليس يقودك إلى حيث يريد، ويسخر بك، ومع هذا فتعجبين بعملك وفيه من الآفات ما لو نجوت منه رأساً برأس لكان الربح في يديك! وكيف تعجبين بعملك مع كثرة خطاياك وزللك، وقد لعن الله إبليس بخطيئة واحدة مع عبادته له قبل ذلك، وأخرج آدم من الجنة بخطيئة واحدة مع كونه نبيه وصفيه؟ ويحك يا نفس ما أغدرك! ويحك يا نفس ما أوقحك! ويحك يا نفس ما أجهلك وما أجرأك على المعاصي! ويحك كم تعقدين فتنقضين؟! ويحك كم تعهدين فتغدرين؟! ويحك يا نفس أتشتغلين مع هذه الخطايا بعمارة دنياك كأنك غير مرتحلة عنها؟! أما تنظرين إلى أهل القبور كيف كانوا، جمعوا كثيراً، وبنوا مشيداً، وأملوا بعيداً، فأصبح دمعهم بوراً، وبنيانهم قبوراً، وعملهم غروراً؟! ويحك يا نفس! أما لك بهم عبرة؟ أما لك إليهم نظرة؟ أتظنين أنهم دعوا إلى الآخرة وأنت من المخلدين؟ هيهات هيهات! ساء ما تتوهمين، ما أنت إلا في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك، فابني على وجه الأرض قصرك فإن بطنها عن قليل سيكون قبرك، أما تخافين إذا بلغت النفس منك التراقي، أن تبدو رسل ربك منحدرة إليك بسواد الألوان، وكلح الوجوه، وبشرى بالعذاب؟ فهل ينفعك حينئذ الندم أو يقبل منك الحزن أو يرحم منك البكاء؟! والعجب كل العجب يا نفس أنك مع هذا تدعين البصيرة والفطنة، ومن فطنتك أنك تفرحين كل يوم بزيادة مالك، ولا تحزنين بنقصان عمرك، وما نفع مال يزيد وعمر ينقص!