[موقف العز بن عبد السلام مع السلاطين]
والرجل العظيم الذي يضرب به المثل: شيخ الإسلام، وسلطان العلماء، وبائع الملوك والأمراء: عز الدين بن عبد السلام، كانت تهابه الملوك والأمراء.
فالملك الأشرف سلطان دمشق لما وجه الجيوش السورية تجاه أهل مصر، وكان التتار على أبواب دمشق، وكان في مرض الموت، فدخل عليه عز الدين بن عبد السلام، وقال له: أعرف أنك واصل للرحم، وتقاتل شقيقك سلطان مصر الكامل، فوجه جيشك إلى التتار، أضمن لك النصر عليهم، فإن عاجلتك المنية كانت هذه نية حسنة تلقى الله عز وجل بها، فأمر في الحال بإرسال الجيوش إلى مواجهة جيش التتار، ثم قال: والحانة الفلانية فيها الخمور، ووزراؤك يفرضون المكوس على الناس، فأبطل هذه في الحال، ثم أراد أن يصرف له مالاً، فقال له: هذه النصيحة لله عز وجل لا أكدرها بشيء من أمر الدنيا.
والملك الصالح إسماعيل لما تولى بعد الأشرف ملك دمشق، تحالف مع الصليبيين، وتنازل لملوك الفرنج عن بعض قلاع المسلمين، ثم أجاز بيع السلاح من المسلمين للنصارى لقتال نجم الدين أيوب ابن أخيه، فلما سئل عز الدين بن عبد السلام وكان قاضي دمشق وعالمها وخطيب وإمام الجامع الكبير فيها عن ذلك، قال: لا يحل بيع السلاح للفرنجة؛ لأنكم تعلمون أنهم سيقاتلون به إخوانكم المصريين، ثم قطع الدعاء للسلطان في خطبته، ودعا وأمن الناس وراءه، وكان من دعائه: اللهم ابرم لهذه الأمة أمراً رشداً يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
فوشى رجال السوء إلى الصالح إسماعيل فمنع عز الدين بن عبد السلام عن الخطابة، ثم لما أراد أن يمضي إلى بيت المقدس حبسوه في بيت المقدس، فبعث الصالح إسماعيل ملك دمشق بمنديله مع وزيره، وقال: تلطف له وسايسه وقل له: كل ما في الأمر أن السلطان يقبل منك أن تقبل يده، وستعود إلى الخطابة وإلى أكثر منها، فلما قال له رسول الملك: إن مولاي يرضى منك بأن تقبل يده، قال: والله ما أرضى لسلطانكم أن يقبل يدي فضلاً على أن أقبل يده! يا قوم! أنتم في واد، وأنا في واد آخر، الحمد لله الذي عافنا مما ابتلاكم به.
فحبسوه في خيمة بجوار خيمة الصالح إسماعيل، فسمع صوت عز الدين بن عبد السلام وهو في خيمته يتلو القرآن في الليل، فأراد الصالح إسماعيل أن يتودد إلى ملوك الفرنجة، فقالوا: من هو هذا الرجل الذي يتلو في الخيمة؟ قال: هذا أكبر قسيس في المسلمين حبسته من أجلكم؛ لأنه أفتى بحرمة بيع السلاح لكم، فقالت ملوك الفرنجة كما ذكر الإمام السبكي في طبقات الشافعية: لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه، ولشربنا مرقته.
ثم أتت الجيوش المصرية وانتصرت على جيوش الفرنجة، وسار نجم الدين أيوب بـ عز الدين بن عبد السلام مكرماً معززاً وولاه قضاء مصر.
وبعد أن تولى القضاء كان نجم الدين أيوب متكبراً لا يقيل من عثرة، ولا يتحنن على ولد، فذهب إليه عز الدين بن عبد السلام في يوم عيد وهو في قلعته وسط عساكره، وقد أخذ زينته، فناداه باسمه المجرد فقال: ما تقول لربك يا أيوب إذا قال لك ألم أبوء لك ملك مصر؟ والخمور تباع في الحانة الفلانية، وفي الحانة الفلانية، قال: ليست هذه في عهدي وإنما كانت من العهود السابقة، قال: أنت ممن يقول الله فيهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:٢٢]، ثم أبطل نجم الدين أيوب الخمور.
فقال تلميذ عز الدين بن عبد السلام له: لماذا أخبرته بذلك؟ قال: والله يا بني! رأيته في زهوه وسطوته وكبريائه فأردت ألا تخدعه نفسه، قال: أما خفته؟ قال: يا بني! استحضرت هيبة الله عز وجل فصار أمامي كالقط.
وكان الأمراء في مصر من المماليك، والمملوك لا يحل له بيع ولا شراء ولا شهود على عقد إلا بإذن سيده، وما ثبت لـ عز الدين أنهم صاروا أحراراً، فما صح لهم بيعاً ولا عقداً ولا شراء، وكان من المماليك نائب السلطان نجم الدين أيوب بنفسه.
فأخبروا الملك نجم الدين أيوب بذلك، فأرسل إليه رسالة قال له فيها: اشتغل فيما أنت فيه من الفتاوى ودع أمر الإمارات.
فأخذ عز الدين بن عبد السلام متاعه فوضعه على حماره، ثم أتى بأهله فوضعهم على حمار آخر، وخرج من القاهرة، فتبعه أهل القاهرة وما تخلف منها أحد مما يأبه له، فقالوا له: إن هذا الشيخ ذهب بملكك.
فركب نجم الدين بنفسه، وطيب خاطر الشيخ، وقال له: افعل ما شئت في الأمراء، قال: أنادي عليهم في السوق غداً وأبيعهم، فصاح نائب السلطان: كيف يبيعنا هذا الرجل ونحن أمراء البلد؟ والله لأقتلنه بسيفي هذا، ثم مضى بحاشيته إلى بيت عز الدين بن عبد السلام، فلما رأى ولد الشيخ ما سيحل بأبيه أخبر والده، فقال له عز الدين بن عبد السلام: اجلس يا بني! فإن أباك أقل من أن يرزقه الله الشهادة في سبيله، ثم لما فتح الباب ونظر إلى بيبرس والسيف على يده، سقط السيف من يده ثم بكى، وسأل الشيخ أن يدعو له، وقال: ماذا تفعل فينا يا مولانا؟ قال: أبيعكم غداً في سوق العبيد، وأضع أموالكم وثمنكم في بيت مال المسلمين، وكان له ما أراد فباع الأمراء واحداً واحداً في سوق العبيد.
والله! ما حدث هذا في التاريخ إلا في زمن عز الدين بن عبد السلام.
ولما أراد قطز أن يقاتل التتار طلب منه أن يفرض قرضاً من التجار، قال له: لا، حتى تأتي بذهبك وذهب الأمراء وما عندكم، فإن لم يكف المال بعد ذلك يجوز لك حينئذ أن تقترض من التجار.
ولما مرت جنازة عز الدين بن عبد السلام تحت القلعة ورأى بيبرس عدد الناس بكى وقال: اليوم استقر ملكي.
أي: ما يتفق موت الشيخ إلا في سلطاني، ثم أمر أمراءه بحمل نعش عز الدين بن عبد السلام وأوصلوه إلى المقابر.
أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، كم من إناس موتى تحيا القلوب بذكرهم، وكم من أناس أحياء تموت القلوب برؤيتهم.
اللهم بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننصب فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا، إلهي! عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسر عبد لم يجعل له من حبك نصيباً.
إلهي ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله فكن دليلنا! إلهي ما أوحش الطريق على من لم تكن أنيسه فكن أنسنا، إلهي أتينا أطباء عبادك ليداووا خطايانا، فكلهم عليك يدلنا، اللهم داو أمراض قلوبنا، اللهم احشرنا مع نبينا غير خزايا ولا نادمين، ولا شاكين ولا مفتونين ولا مبدلين.