[قوله تعالى: (ذو مرة فاستوى)]
قال تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ} [النجم:٥ - ٦]، أي: ذو قوة.
والقول الثاني: أي: ذو منظر حسن وجميل، ينتثر من ريشه تهاويل الدر، يحمل الجمال والنور وينزل به في الصحف المكرمة.
فلابد أن يكون في منظر جميل، وانظر إلى جمال نزوله، حيث يقول: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:١]، يعني: والقرآن إذا نزل، فجبريل عليه السلام في تلألئه وفي النور الذي يحمله مثل النجم إذا لمع ورق، أجواء شفافة مضيئة يحملك إليها القرآن بعيداً عن الأرض: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:٥ - ٦] أما من يحمل الصحف السوداء والكذب والدجل فتجده يحمل وبيصاً منها وشيئاً منها وكفلاً منها.
وإذا رأى الشيطان طلعة وجهه حيا وقال فديت من لا يفلح لست كذاباً فما كان أبي حزباً ولا أمي إذاعة أما الصحف النقية الكريمة، {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس:١٤ - ١٥]، {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ} [النجم:٥ - ٦] يعني: ذو منظر جميل، والله تبارك وتعالى يصف سيدنا جبريل في سورة التكوير فيقول: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:٢٠ - ٢١]، هو المقرب من الملائكة إلى ربه، له مكانة وأي مكانة عند الله عز وجل، فهو: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:٢٠].
لا تبغين جاهاً وجاهك ساقط عند الإله وكن للموت حذارا قال تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ} [التكوير:٢٠ - ٢١] له الطاعة العظمى في ملكوت السموات، يصدر الأمر إلى الملائكة فيستجيبون له {ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:٢١].
وعندما تسمع صفة جبريل انظر إلى ملكوت السموات وكم فيها من ملك؟ قال صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك ساجد واضع جبهته لله تبارك وتعالى).
وأعداد الملائكة على التضعيف، يعني: كل سماء ضعف التي قبلها، فعدد الملائكة الذين يدخلون البيت العتيق سبعون ألف ملك يدخلونه ثم لا يعودون أبداً، وهذا منذ أن خلق الله تبارك وتعالى السموات، وكل هؤلاء يؤدون لجبريل الطاعة المطلقة فهو: {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:٢١]، أي أمين يحمل أنفس شيء، وأعظم شيء، وأجمل شيء، ولا يبخل به، مع أنه نزيه لا يكتم شيئاً منه، فليس بمتهم على الوحي، كما قال الله تبارك وتعالى عن الرسول البشري سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:٢٤] والغيب هنا هو القرآن بإجماع علماء التفسير.
فقوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:٢٤] يعني: لا يبخل بشيء من الوحي مع نفاسته ولا يكتم شيئاً منه، وهذا كمال الكرم.
القول الثاني على القراءة السبعية الثانية: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بظَنِينٍ} [التكوير:٢٤] بالظاء يعني: ليس بمتهم، فهو أمين.
فهو سبحانه يثبت الأمانة لسيدنا جبريل ويثبتها للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:٢٤]، {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:٥ - ٦] كلمة (استوى) معناها: علا وارتفع، ولكن استوى قد تضيف لها حرف جر فتحمل نفس المعنى، أي فتكون بمعنى العلو والارتفاع، وتحمل معه معنى آخر، وهذا من جمال اللغة العربية: وسعت كتاب الله لفظاً وغاية وما ضقت عن آي به وعظات فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي وكلمة (شرب) نعلم من معناها جميعاً أنه إنسان يشرب، ولكنه قد يشرب ولا يرتوي، فإذا وضعنا حرف الجر بعدها أفادت معنى آخر للشرب: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:٦] لم يقل: يشربها عباد الله وإنما قال: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:٦] يعني: يرتوي منها عباد الله.
قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:٢٩] قال ابن كثير: ثم صعد، وقال ابن جرير: ثم قصد، فصار معناها العلو والارتفاع، ومعناها القصد، أي القصد تجاه الشيء.
فيكون معنى استوى: العلو والارتفاع أي: ارتفع جبريل في الأفق الأعلى: {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} [النجم:٧].