وهذا الحياء يكون على قدر المعرفة بالكيف، مثل حياء سيدنا عمرو بن العاص من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاءه الموت قال: والله ما كان شيء أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كنت أملأ عيني من رسول الله حياءً منه، ولو قلتم لي: صفه، لا أستطيع أن أصفه.
أي: لم يكن يستطيع أن يملأ عينيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم حياءً منه وإجلالاً لمقامه العظيم، كما يقول الشاعر: أشتاقه فإذا بدا أطرقت من إجلاله لا خيفة بل هيبة وصيانة لجماله الموت في إدباره والعيش في إقباله وأصد عنه إذا بدا وأروم سبط خياله وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه جالساً في مجلس أبي بكر وعمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(إن من الشجر شجرة مثل المؤمن لا يسقط ورقها، فوقع في الناس أنها شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة، فلم أتكلم إجلالاً لمكانة أبي بكر وعمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هي النخلة) فحدث عبد الله بن عمر والده بعد ذلك، فقال: يا بني! لئن كنت قلتها أحب إلي من كذا وكذا.
وقال سيدنا عبد الرحمن بن مهدي تلميذ سفيان الثوري: والله ما كنت أستطيع أن أنظر إلى سفيان الثوري حياءً منه وهيبة.
وقيل عن سفيان الثوري: كان أصفق الناس وجهاً في الله عز وجل، يعني: لا يستحيي من أحد في الحق، وهذا من غاية الحياء وكماله: ألا تستحي من مقارعة المبطلين لمقام الله عز وجل، وترفع حياءك من الله عز وجل فوق حيائك من الخلق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ألا لا يمنعن أحد هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه أو شهده أو سمعه).
ولذلك لما دخل سفيان الثوري على المهدي أغلظ له في القول وهو خليفة المؤمنين، فقال له عبيد الله وزير المهدي: لقد أسأت وتعديت، قال: اسكت فما أهلك فرعون إلا هامان، فلما ولى وانصرف قال عبيد الله للخليفة المهدي: يا أمير المؤمنين! ائذن لي أن أضرب عنقه، قال: اسكت! وهل بقى في الأرض من يستحيى منه غير سفيان.